بعد سفر سعد الحريري الموفّق الى دمشق، جاء سفره الى اسطنبول خطوة سياسية تنم عن صحوة الوطن اللبناني على أحد مراكز القوى الرئيسية في المنطقة. فمنذ أن تولى السلطة في تركيا حزب العدالة والتنمية برئاسة رئيس الجمهورية عبدالله غول ورئيس الحكومة رجب طيب أردوغان ووزير الخارجية التركي داوود أوغلو، والدولة التركية تتعامل مع نفسها ومع غيرها على اساس أنّها مركز الثقل الأول في المنطقة أو صاحبة الحق في أن تطمح الى ذلك لأنّها تحمل تراثيْ العثمانية والكمالية معا. ففي كليهما ما بهر شعوب الشرق ونخبه بانجازاتها وفتح في وجهها امكانية دخول العصر من أوسع أبوابه. أما لبنان فقد كان وما يزال منارة في هذا الشرق. كانت العثمانية آخر امبراطورية كبرى انتجها هذا الجزء من العالم، وكانت الكمالية أنجح عملية تحديث أقدم عليها حاكم من هذه المنطقة. وفي الاثنتين كانت تركيا صاحبة انجاز تاريخي جدير بالتقدير. ومن الطبيعي أن يكون رئيس حكومة لبنان وبالتالي حامل همومه حريصا على القيام بهذه الزيارة لا تحية لدولة وقيادة في المنطقة فقط، بل للمساهمة كرئيس حكومة لبناني في دفع المصالح اللبنانية والعربية والاسلامية والمسيحية العربية الى أمام بكل ما في الطاقة الرسمية والاجتماعية للبنان من امكانات. منذ ان قالت تركيا بلسان حزبها الحاكم نعم للاسلام ونعم للتقدم تمكنت من أن تلفت اليها اهتمام الكثرة من قادة المنطقة العربية، فسواء على طريق الحرب أو السلام كانت لتلك الوقفة الشهيرة في دافوس السويسرية حول غزة لرئيس الحكومة التركية أردوغان في وجه رئيس الحكومة الاسرائيلية رسالتها الاعلامية الكاملة للخارج الدولي ووظيفتها التثقيفية للجمهورين العربي والاسلامين. ولا يقل عن تلك الوقفة المشهودة الانجاز الدبلوماسي التركي الاخير، عندما أجبرت اسطنبول تل ابيب على تقديم اعتذار علني ضمن مهلة زمنية قصيرة، عن اساءة متعمدة وجهتها وزارة الخارجية الاسرائيلية الى سفير تركيا في اسرائيل. إن السلام هو ويجب ان يبقى غير الاستسلام. واذا كان الموضوع هو الأول وليس الثاني، فينبغي أن تقول اسرائيل ماذا هي مستعدة أن تعطي من أجل هذا السلام قبل أن تطالب العرب باهدائه اليها، والا فهي تريد استسلاما من الآخر لها لا سلاما له ولها، وهذا يعني أن العقل الاسرائيلي بحاجة الى الكشف بل والتشهير العلني به تماما كما فعل رئيس الحكومة التركي في تلك المواجهة المذاعة تلفزيونيا على العالم والتي أوضحت أن اسرائيل لا تريد من الآخر الا استسلاما...فاستسلام الآخر لها هو ما تطالب به دول الغرب تحقيقه لها وتسميه هي سلاما! ان اسرائيل تتحدث عن السلام بمعنى الاستسلام لها ووقف مقاومة الآخر لما تريد. أما السلام بمعنى اقامة حالة مبنية على التسليم بالحقوق لأصحاب الحقوق فهو مرفوض. باختصار السلم في نظر اسرائيل هو التسليم بما أخذته بالقوة أو اخذه الانكليز من الفلسطينيين أو العرب ليعطوه لها، هذا هو السلام، التسليم لها بما لا تملك بل وبما لم تملك في وقت من الأوقات. إن وظيفة المراجع الدولية والمؤسسات العالمية بنظر اسرائيل هي الاسراع في تسليم كل أرض أو مؤسسة فلسطينية للاسرائيليين وإلا يكون العمل تعطيلا للسلام ولحق اسرائيل بأن تكون هي وحدها مالكة كل شيء وعلى كل شبر من أرض فلسطين. والا فان غير ذلك هو مقاومة للسلام ولحقوق اسرائيل وتجن على القوانين الدولية وغير الدولية ومؤامرة على حقوق شعب الله المختار وعلى تقوى وفضائل أنصار الصهيونية حيثما كانوا، أما الفلسطينيون والعرب وأنصار قضايا الحق في فلسطين فهم نسخ من هتلر يقفون في وجه الصهاينة وانحيازهم الفطري للحق والسلام. أهمية زيارة الحريري لتركيا هي أنّها نصرة لمفهوم السلام التركي المجسد في وقفة أردوغان الشهيرة ازاء مفهوم الاستسلام الفلسطيني الكامل وغير المشروط الذي تجرأ رئيس الحكومة الاسرائيلية على طرحه في غزة بوجه العالم الاسلامي كله ممثلا برئيس الحكومة التركي رجب طيب أردوغان وليس في وجه الفلسطينيين أصحاب الأرض فقط. كانت وقفة تركيا صريحة وقاطعة بل تعرية لنوع السلام الذي تدعو اليه اسرائيل وهو الاستسلام الفلسطيني والعربي والاسلامي في وجهها. فأول ما يجب أن تفهمه اسرائيل هو تمسك الفلسطينيين ومعهم العرب والمسلمون وانصار الحق في كل مكان برفض أسرلة السلام، أي جعله أولا واخيرا لمصلحة جهة واحدة هي الجهة الاسرائيلية واعتبار كل ما هو دون ذلك انتقاصا من حقوقها في استرداد أرض الميعاد الذي يتحدث عنها توراة اليهود. ليست تركيا ضد السلام بل هي أخلص المخلصين لذلك النوع الحلال من السلام الذي يبدأ باحترام حقوق أصحاب الأرض الفلسطينيين من المسيحيين والمسلمين العرب وغير العرب الذين كانت لهم الأرض من قبل موسى وعيسى ومحمد كما قال الفلسطينيون وما يزالون يقولون منذ الاستعمار البريطاني لفلسطين شريك الصهيونية في عملية تحويل الحرام الى حلال وتحويل الحلال الى حرام. وما التزوير الاكبر للحقيقة الا التصوير الغربي المغرض للصهاينة بأنّهم أصحاب الحق في فلسطين وتصوير أهلها العرب بأنّهم الغزاة الطارئون وفقا لمدعيات عملية غربية استعمارية موجهة ضد الشعب الفلسطيني والشعوب العربية وغير العربية في المنطقة. إن من أهم ما يميز الحكم التركي الحالي أنّه استعاد لتركيا احترامها ومكانها في قلوب أهل الشرق وقاراته، وبالتالي استرد لها دورها في المنطقة كأحد أصحاب الدور الاصيل والقديم في الدفاع عنها منذ أيام العثمانيين، بل ها هم حكامها اليوم يسمعون في صحف العالم الغربي ومنتدياته الفكرية من يسميهم بالعثمانيين الجدد لا بمعنى الخروج من الحداثة بل بمعنى تطعيم الحداثة بحس الدور التاريخي لاسطنبول في الشرق والغرب ومن الطبيعي أن يلتفت العرب كلهم بدءا بلبنان وسورية ومصر والمملكة العربية السعودية وغيرها من البلدان العربية الى تركيا المعطرة نفسها دائما بعطر التاريخ ونبض العصر. وما زيارة رئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري الى تركيا الا ظاهرة تعاطف لبناني عربي أصيل مع حقائق الحاضر ونداء المستقبل مجسدين في يقظة تركيا الحالية على أهمية العالم العربي وما يمكنها أن تعطيه وتأخذ منه على طريق الاستقواء المتبادل في وجه كل تقليل من وزن الاسلام والعروبة والمسيحية العربية. وحسب تركيا الحالية هذا الطموح الريادي عندها الى سلام للمنطقة ومن المنطقة لا يمر من تحت قنطرة الاستسلام ولا يخدم اسرائيل ونوايا الاستعمار العدوانية في المنطقة. ومن هنا لا تقاس زيارة الحريري الى تركيا بما حققه من انجازات على صعيد فتح الحدود من دون تأشيرلت بين البلدين ولا على صعيد الاتفاقات الاقتصادية فقط، بل ما حملته مواقف اردوغان خلال استقباله رئيس الوزراء اللبناني من مواقف سياسية تولى القضية العربية ولبنان أشد الاهتمام والدعم، وهذا ما أثار اسرائيل ودفع بسياسييها الى إصدار مواقف حادة، عادوا واعتذروا عنها. ان الحنين الى الآخر يقوى باستمرار على الجانبين التركي والعربي وزيارة سعد الحريري الى اسطنبول تأتي حدثا تاريخيا في هذا الاطار، بعد أن تكاثرت المؤشرات على حيوية وصدقية العثمانية الجديدة الممسكة بالقيادة السياسية للحكم في تركيا، ونزوعها الى التعامل والتعاضد مع البلدان العربية وقضاياها وهمومها. ولا شك أن لقاء العروبة المستنيرة في المنطقة العربية مع العثمانية الجديدة في تركيا هو لقاء بنّاء ومنتج يتحمس له السياسي الشاب والسياسي المخضرم على الجانبين، إنّه تعزيز لنزعة التطلع الى أمام بروح من الجد في التصور والعمل يتحمس له المخضرم والجديد من ساسة الأمتين العربية والتركية. وما حماسة الحكم اللبناني له الا امارة التطلع الدائم الى امام من وطن الأرز الى الأدوار الكبيرة التي طالما حلم بها ساسته ومثقفوه على طريق تقوية المنطقة التي بها يقوى وطن العمل والأحلام الذي اسمه لبنان والذي يمسك شبابه اليوم أكثر فأكثر بزمامه. ولابد هنا من القول إن الملك عبدالله بن عبدالعزيز كان أبرز صانعي العلاقة العربية مع تركيا الاسلامية منذ رحلته القديمة والشهيرة الى اسطنبول، وكذلك كانت منذ مساعي وزير الخارجية السعودي الامير سعود الفيصل، الذي كان وظل يعطي اهتماما شديدا للعلاقات العربية - التركية، هذه العلاقات التي كانت في العهد العثماني متسببة بانشاء أحد أهم ما حلمت به المخيلة الاسلامية الصافية في حينها وهي فكرة انشاء خط سكة حديد اسطنبول الحجاز التي لم تخدم تركيا والسعودية فقط بل كانت وظلت حتى الآن نموذجا لنوع المشاريع المجدية والاشد أثرا في حياة الناس ومصالحهم والتقارب فيما بينهم. وقد كان لهذا المشروع في زمانه مردود خير ليس على الناس المقتنعين به فقط، بل أكثر من ذلك شهادة للفكر العثماني الذي أبدعه بالجدية في خدمة الروابط المشتركة بين البشر وتقديم الأهم على المهم، تلك القاعدة التي تفتقر اليها الكثير من ممارسات حكوماتنا ومجتمعاتنا في العصر الذي نعيش فيه، فالوحدة والتضامن والنهضة تبقى اذا لم ترفدها الرؤى والهمم مجرد كلمات في الصحف والخطابات الرسمية والتظاهرات الفئوية الخالية من اي جدية مخلصة في طريق الانجاز. ولعل خير ما يمكن أن يفعله مسؤول كبير اليوم في لبنان أو غير لبنان هو ضخ شيء من الجدية في علاقات العرب والمسلمين المؤسساتية بعضهم مع بعض. ومن هنا أهمية سفر رئيس الحكومة سعد الحريري الى تركيا والأخذ والعطاء مع المسؤولين الأتراك على هذا الأساس المعروف عن المسؤول اللبناني البارز والحكم التركي المفتوح القلب والعقل على مستقبل المنطقة.