كنت قد وعدت القراء في قراءتي لكتاب (أخبار قني) للشيخ محمد ناصر العبودي في العدد15011وتاريخ 8 شعبان 1430ه باستعراض كتاب (مشاهد من بريدة) وغيره من إصدارات الشيخ الأخيرة، ثم شغلنا عنها بغيرها وهانحن نعود إليها مرة أخرى. جاء هذا الكتاب في 168 صفحة بدون تبويب أو ترتيب معين، وإنما كان أشبه بالفيلم السينمائي الذي جرى تصويره في بريدة القديمة ابتداء من منزل الشيخ نفسه الذي قصد بريدة يوم الخميس 28/1/1423ه للاطلاع على بيته الذي يبنيه هناك ومعاينة المكان الذي سيضع فيه لوحة تذكارية تاريخية هي الأولى من نوعها في مدينة بريدة ونص اللوحة:(اشترى عبدالرحمن بن عبدالكريم العبودي أرض هذا البيت في عام 1307ه وحوشه وحفر فيه بئراً في العام نفسه، ثم عمره بيتاً أنهى عمارته وسكنه في عام 1313ه، وبقي ملكاً له حتى توفي في عام1323ه فاشتراه من ورثته ابنه ناصر بن عبدالرحمن العبودي، وبقي معه حتى توفي فيه عام 1370ه، فاشتراه ابنه محمد بن ناصر العبودي، وسكنه فترة ثم هدمه وبناه بالأسمنت المسلح، وقد خطط مبناه وأشرف على تنفيذه ابنه المهندس المعماري (ناصر بن محمد العبودي) وتم بناؤه في عام 1423ه، أي بعد مائة عام من وفاة مؤسسه وبانيه الأول). ويبرر الشيخ وضعه لهذه اللوحة بسبب عدم وجود لوحات معلومات توضيحية على الأماكن والأبنية التاريخية في بريدة. والحقيقة أن هذه اللوحات التي تحكي تاريخ الأبنية والمعالم مفقودة في جميع أنحاء البلاد رغم أهميتها، وحيث إن وضع هذه اللوحات يعتبر سلوكا متحفيا تاريخيا حضاريا معمولا به في جميع أنحاء العالم؛ ففكرة الشيخ هذه يفترض أن تكون مشروعاً وطنياً تتبناه هيئة السياحة بوجود صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان آل سعود. تنثال ذكريات العبودي على صفحات هذا الكتاب انثيالاً، بأسلوب مشوق يجبرك على متابعة القراءة كلما أردت التوقف، بدأ العبودي ذكرياته بجولة تاريخية خيالية في شارع بيته وهو في زاوية من زواياه تحت الإنشاء فشاهد والده وجيرانه وجيران الجيران الذين نسيت أخبارهم، حيث قال:"وقد جربت الحديث مع أحفاد أولئك الشيوخ فوجدتني أحدثهم حديث آبائهم وأجدادهم كما أحدثهم عن شخصيات تاريخية يعجبهم الحديث عنها، لأنه لم يهتم أحد من أسرهم ولا من غيرهم بالحديث عنهم أو بيان أحوالهم" ومن هنا تأتي أهمية هذا الكتاب. فترجم الشيخ في هذا الكتاب تراجم موجزة لعدد كبير من جيرانهم قبل 75سنة ومنهم على سبيل المثال: 1 صالح بن سليمان الغليقة الذي يعده الشيخ من النابهين النبغاء، حيث يحسن عدة مهن إلا أن هناك مهنة لا يجيدها غيره من أهل بريدة وهي تقدير الشجاج فعنده مسبار من المعدن يقيس به الشجة. 2 عبدالله بن سحمان أحد رجال عقيل الذي وصفه العبودي بالمفكر، فقد فكر في استغلال بعض الآبار القديمة فأحضر معه على بعيره من العراق مضخة قوية تحرك باليد، والتي كانت موضع عجب الناس في ذلك الوقت. 3 ناصر بن عبدالرحمن العبودي والد الشيخ الذي تميز بصنع البارود في القصيم. 4 محمد بن علي الطرباق القوي الذي لا يسيطر على مجانين بريدة غيره. 5 علي بن منيّع أول من أدخل البامية إلى الحي حيث لم تكن معروفة في ذلك الوقت. 6 دحيم الرسي الذي عاش في دبي 25 سنة وكان يقص على الناس قصة معيشته هناك. 7 علي بن محمد الحامد معلم البناء الماهر الذي طلبه الملك عبدالعزيز فيمن طلب لبناء قصور المربع سنة 1353ه. 8 عبدالله بن خليفة السعيدان أول نجدي سافر للولايات المتحدةالأمريكية التي عاد منها قبل الحرب العلمية الأولى. وقال ص27 موضحاً منهجه في هذا الكتاب: "وقد حاولت أن أكسر هذه القاعدة القائمة على الجهل أو التجاهل بما كان عليه آباؤنا وأجدادنا وأهل بلادنا وبخاصة ما يتعلق بذواتهم وما يحسنونه من قول أو فعل، وبصفاتهم وما يكون فيها من حسن يجمل ذكره، أو قبيح يحسن ستره، وليس لنا مثل السوء في تتبع القبيح، وإن لنا في نشر الحسن الصحيح ما يغنينا ويغني التاريخ عنه فضلاً عن الإكثار منه" العودة إلى الواقع: كان جميع ما ذكره الشيخ من معلومات وتراجم حتى الصفحة 28 عبارة عن جولة تاريخية متخيلة لما يصادفه ويصادف والده في الذهاب إلى دكانهم في سوق بريدة القديم أو العودة منه، وربما كانت مقدمة لما بعدها حيث انتقل بعد ذلك إلى كتابة مذكراته بعد مضي سنتين انتهى فيهما بناء البيت فعاد إليه للتذكر ابتداء من عام 1350ه حيث (طِقّ التيل) في بريدة والتيل المراد به البرقية والذي وضعه الملك عبدالعزيز رغم معارضة بعض المتشددين الذين رأوا فيه سحراً وكهانة. ليعرج على محطات حياته متناولاً عدد من الأحداث والموضوعات منها وفاة الشيخ عبدالله بن سليم سنة1351ه، وعمل والده وأسرته، ذكريات الطفولة، ووصف البيت وجميع مرافقه ، حادثة الختان في سن الثالثة، وتحدث عن تخويف الأطفال ب (الدفّاع ) أو(عبيد القاعة) أو(الدودله بالحسو) ،أهل البيت، كيفية قضاء اليوم،وفاة والده سنة1370،الدكان، إهداء إبراهيم الرشودي له كتاب ابن القيم (عدة الصابرين)، طريقة صناعة البارود، الطريق إلى الدكان، جيران الدكان. والشيخ يتخذ من الوصف الدقيق للمكان طريقة يسير عليها في كتابه من خلال العبور المتخيل في شوارع بريدة وحاراتها فيذكر الحوادث ويترجم للأشخاص حسب مروره ببيوتهم ودكاكينهم انطلاقاً من بيته فترجم للشيخ الخريصي، وعقلا بن موسى الحسين،ومحمد بن عبدان، وأبوطامي والد عبدالله الطامي أول سعودي ينشئ إذاعة خاصة (إذاعة طامي)، وتحدث عن سوق الصنّاع، ليترجم للطويعينة أول من صنع سراج التنك في بريدة، حيث كان عجيبة من العجائب التي لم تستوعبها عقول بعض الناس فقالوا عندما رأوه:"كفرنا به وآمنا بالله" وهي نفس العبارة التي رددها بعضهم عندما رأوا السيارة لأول مرة. ثم تحدث عن بعض الخرافات الشائعة في ذلك الوقت كخرافات شباط والمربعانية، ليتحدث بعد ذلك عن أسواق بريدة ودكاكينها التي أحصاها سنة 1357ه فبلغت 327 دكاناً، ويشير إلى وجود دكاكين خاصة تبيع فيها النساء ومنهن: النوصا، والتنشا، والسودا،وسعره،وأم الدعاجين، ومن المعلومات التي ذكرها العبودي وربما يستغربها البعض أن التبغ (التتن) كان يزرع في القصيم في مطلع القرن الرابع عشر، كما تحدث الشيخ عن جردة بريدة، والحواشيش، والغزو والحرب، وغيرها من الموضوعات التاريخية التي ينقلها الشيخ عن معايشة وإدراك وتعطي تصوراً عن واقع نجد قبل 75 سنة . قاسم الرويس الشعر والشعراء في الكتاب: تضمن الكتاب بعض الأبيات الشعرية وإشارات إلى بعض الشعراء وذكر بعض المعلومات التي لم يدونها غيرها مثل: إشارته إلى شاعر مفلق اسمه سلطان زين العين والذي انقطعت أخباره وأخبار أسرته. وإشارة إلى الشاعر عويدات المرداسي القائل: ياكبر حظك يالعبودي**يوم أن حسوك طلع حلوٍ شرابه وإشارته إلى شاعر الحماسة محمد بن سليمان الصغيرص129. ثم حديثه عن الشاعر محمد عبدالله العوني الذي أسماه (أمير الشعراء) ووصف موقع بيته وصفاً دقيقاً وذكر عنه بعض القصص التي لم يذكرها غيره، وأشار إلى نقص الأبيات في قصيدته المسماة (المستحيطة) والموجودة في ديوانه، كما تحدث عن علاقته بالملك عبدالعزيز والهبات التي كان يمنحها له . وفي نهاية الكلام في آخر الكتاب يقول الشيخ العبودي بكل تواضع:" ويقف الكلام في هذا المقام ليستريح القراء من هذا الذي يعده بعضهم هراءً من الهراء والله المستعان، وعليه التكلان" والحقيقة أن هذا الكتاب يعتبر فيلم تصويري توثيقي للحياة الاجتماعية في بلاد نجد لا يستغني عنه الباحث التاريخي، وبه من المعلومات التي لو لم يدونها الشيخ العبودي لذهبت هباء منثوراً فجزاه الله عن حفظ تاريخ بلادنا خير الجزاء. بقي الإشارة إلى أن الكتاب صدر في طبعته الأولى عام 1430ه عن دار الثلوثية للنشر والتوزيع.