في عام 2000 قمت برحلة شملت سنغافورة وهونج كونج والصين.. وقبل عودتي فقط بدأت أتنبه إلى أمر كان يجب أن ألاحظه منذ البداية .. فالشعوب الصينية والآسيوية عموما مؤدبة وخجوله تقابلك بانحناءة وتودعك بابتسامة . وحين تقدم لهم جواز سفرك أو بطاقتك سواء الشخصية أو البنكية يتعاملون معها كجزء من شخصيتك فيأخذونها منك بحرص واضح (وكأنهم يستلمون مخطوطة نادرة) ويعيدونها إليك مع طأطأة الرأس وإمساكها من كلا الطرفين (وكأنهم يحملون صينية يخشون سقوطها) .. وهذا التصرف لاحظته في كل فندق أقدم له جوازي أو بطاقتي الائتمانية ؛ ففي حين كنت أرمي بطاقتي أمام موظف الاستقبال (كورقة بلوت طائرة) كان يعيدها لي ممسكا إياها بيديه الاثنتين شاكرا لي فرصة اطلاعه على صورتي وبياناتي وقطعة القماش التي أضعها فوق رأسي... وحينها تذكرت بلاد العم توشيبا وعجز اليابانيين (رغم تعليمهم الراقي) عن الاحاطة بجميع المعاني التي تحملها رموز الكتابة لديهم .. فهي متداخلة ومتشعبة لدرجة احتمال كتابة الأسماء بطريقة خاطئة الأمر الذي يجعل "الكرت" بمثابة الجلد الثاني للمواطن الياباني .. فمن الأقوال الساخرة في اليابان (وإن كنت أشك بقدرة اليابانيين على السخرية والتهكم) أن "الإمبراطور وحده لا يحمل كرتا شخصيا". وهو قول يؤكد ضرورة امتلاك كرت يوضح طريقة كتابة الاسم بطريقة صحيحة بدل محاولة إملائه بعشرات الطرق المختلفة (أو كتابته بحسب المعنى الذي يعتقده السامع) .. لهذا السبب يلاحظ وجود تداخل واضح بين شخصية الياباني وكرته الشخصي لدرجة يعد تجاهله أو الكتابه عليه أو وضعه في الجيب الخلفي إهانة لا تختلف عن تقديم فنجان القهوة لدينا باليد اليسرى أو سخرية موظف الجوازات الأوربي من صورة "العمامة" الموجودة في جوازك !! ... وفي الحقيقة يخطئ من يظن أن الكرت الشخصي أو بطاقة التعريف اختراع عصري أو تصرف حديث .. فمن فجر التاريخ والشخصيات المهمة تصنع لنفسها أختاما تبرز هويتها وتوثق تعاملاتها . وفي الحضارة السومرية كانت منزلة الناس والتجار خصوصا تتوافق مع ضخامة "الختم" المعلق حول رقابهم .. ورغم جاهلية العرب وعجز معظمهم عن القراءة والكتابة إلا أنهم كانوا يستعملون الأختام كبطاقة تعريف وطريقة توثيق وليس أدل على ذلك من ختم "محمد رسول الله". ... ورغم أن تقنيات الطباعة الحديثة اختصرت كروت التعريف وأتاحت للجميع حيازتها إلا أنني أنظر إليها (وإلى طريقة تقديمها والتعامل معها) كمظهر من مظاهر التحية وعادات اللقاء وأخلاقيات التعامل بين الأفراد والشعوب... ففي حين تتعامل معها الشعوب الصفراء كجزء من ذاتك وامتداد لشخصيتك قد يستلمها منك الأمريكي بكل سعادة وامتنان ثم يرميها بعد ذهابك في الزبالة .. وحين تدخل اجتماعا في كوريا الجنوبية لا تحتاج للمصافحة ولكن من الضروري تقديم كرتك الشخصي لكافة الموجودين في الغرفة .. وفي حين يهتم المواطن الألماني والفرنسي بذكر المنصب المهني والتخصص الأكاديمي متبوعا باسمه الأول فقط يبدو اسم العائلة والقبيلة أهم جزء في كروت الخليجيين .. أما في بلجيكا فتعد كتابة البطاقة باللغة الانجليزية مخرجا مناسبا لتلافي حرج كتابتها بإحدى اللغات المحلية الفرنسية أو الفلمنكية أو الألمانية .. ورغم أن كتابتها باللغة الانجليزية مهمة للمسافرين ورجال الأعمال إلا أن تقديمها بهذه اللغة يعد إهانة لشخص لا يجيد قراءتها في إيطاليا أو البرازيل .. أما في البرازيل ذاتها فيتم حشر كافة الأسماء والألقاب والتخصصات ثم يوضع خط تحت الاسم الذي يفضل الشخص مناداته به .. أما الإيطاليون فظرفاء بالفعل كونهم يحملون عادة ثلاثة أنواع من البطاقات: الأولى شخصية تتضمن الاسم والعنوان، والثانية رسمية تحمل الألقاب والتخصصات، والثالثة ملونة وزاخرة بالجوالات يتم رميها للحسناوات!!! ..... أتعرفون أين تكمن المفارقة في كتابة مقال كهذا !؟ ان كاتبه لم يحمل كرتا في حياته وطالما أعتمد على ذاكرة الناس وكرمهم في التعرف على الصورة أعلاه ... ( فياليت تركز فيها أكثر) !