مازال حديث الاختلاط ذا شجون، كلّ يدلي بدلوه فيه؛ بعضهم عن علم، وبعضهم حمية، وبعض ثالث مع "الموضة". آخر المداخلين كان الدكتور يوسف الغيث في قناة العربية. ومن البدهي القول إن انتهاز هذه الفرصة السانحة لتصفية الحسابات أو التزلف لتحقيق منافع شخصية سيعيق الحوار الجاد الذي يزيل اللبس عند العامة والخاصة بغية الوصول إلى رأي فقهي ينير للناس مسالكهم في درجات الاختلاط المحرم منها والجائز، وما إذا كانت قاعدة سد الذرائع بتحوطاتها المبالغ فيها قد أوصلتنا إلى درجة متقدمة من التضييق على الناس في حياتهم اليومية. ومما يتعجب له المرء أن علماءنا اعترفوا للتو بأن مصطلح الاختلاط دخيل على المعجم الفقهي الإسلامي في السياق المقصود به وجود النساء والرجال في مكان واحد. فهل هذا الكشف العلمي المثير وليد اليوم أم هو موجود في كتب الفقه وفي قناعات العلماء في وقت كان يضيّق فيه على المجتمع ويفتى بحرمته تحريما قاطعا لامجال للاجتهاد فيه؟ منذ افتتاح جامعة الملك عبدالله للعلوم والتكنولوجيا لم أسمع أن عالما معتبرا خرج علينا بفتوى تحرم الاختلاط، بل إن العلماء المعتبرين باركوا وأيدوا جامعة الملك عبدالله ولم نسمع أن سماحة المفتي ولا رئيس مجلس القضاء الأعلى ولا أئمة الحرمين ولا وزير العدل ولا وزير الشؤون الإسلامية قد ذهبوا مذهبا يحرم وجود الرجل والمرأة في جامعة الملك عبدالله في فصولهم ومعاملهم ومكتباتهم. وهذا يؤكد أن هناك قضايا أخرى اجتهادية ألزمنا الناس بها في حين أنه لم يكن من المناسب إصرار الناس على رأي واحد إذا كان لهم فسحة في اتباع رأي مختلف. وقد كان عمر بن عبدالعزيز يقول: "ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا. وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا كان في الأمر سعة". كما أنه ليس"للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه". ويشير الشيخ يوسف القرضاوي إلى أن العماء قرروا: "أنه لا إنكار من أحد على أحد في المسائل الاجتهادية، فالمجتهد لا ينكر على مجتهد مثله، والمقلد لا ينكر على مقلد مثله". والسؤال الذي نطرحه في هذا المناخ الإيجابي من الحوار المتعمق بين أصحاب المدرسة الفقهية الواحدة هو عن مصير القضايا الاجتهادية التي ألبسناها بردة القطعية في حياتنا، وألزمنا الناس بها على أنها رأي واحد لا ثاني له ولا يجوز الأخذ بغيره. إنني على يقين أن هناك قائمة طويلة لايجب أن ننتظر مناسبات تكشف كم ضيقنا على المسلمين واسعا فيها، كما كانت عليه الحال في موضوع الاختلاط؛ ولذلك فمن الأحوط والأسلم أن يبدأ علماؤنا بإعمال النقد الذاتي الإيجابي في كتبنا وفتاوانا وأقوال علمائنا بحيث يُفتح النقاش في أمور حسم الجدل فيها لصالح الرأي الأوحد. ويمكن أن نضرب أمثلة على ذلك بتأنيث محلات بيع المستلزمات النسائية، والحجاب الشرعي المتفق عليه، وقيادة المرأة للسيارة، وضوابط ولاية الرجل على المرأة، وسفر المرأة وحدها، والمحرم، وغيرها من القضايا الخلافية. قدرنا أن بلادنا تعد قلب العالم الإسلامي النابض، تهفو إليها الأفئدة، ويثق بعلمائها المسلمون، ومن المهم أن نستوعب اجتهادات علماء الإسلام وأن نتعرف على الرجال بما لديهم من حق لا أن نقصر الحق على نفر من الرجال مهما بلغ علمهم.