مما لا شك فيه أن الأمن المائي والأمن الغذائي صنوان مترافقان، تسعى جميع الدول والشعوب إلى التأكد من توفرهما في حالة السلم، وتكون الحاجة إلى ذلك في حالة الظروف غير المستقرة والمتأزمة أهم، أما في حالة الظروف الاستثنائية فإن الوضع يصبح مسألة حياة أو موت. من هذا المنطلق اتجهت المملكة إلى طرح عدة خيارات وبدائل للوفاء بتلك المتطلبات، ففي مجال الأمن المائي تم الاتجاه إلى التوسع في تحلية مياه البحر من ناحية، والاستفادة من إعادة تدوير مياه الصرف الصحي من ناحية أخرى، كما تم الاتجاه إلى خفض إنتاج القمح بواقع (12.5%) سنوياً بحيث يتوقف إنتاجه محلياً بعد مرور ثماني سنوات وذلك حفاظاً على المياه الجوفية. أما جلب المياه من الخارج، فإنه يحتاج إلى دراسة وتمحيص ووضع ضوابط وبدائل تمكن من الاتجاه إلى الاستفادة منه. أما في مجال الأمن الغذائي فقد تم الاتجاه إلى الاهتمام بزراعة المحصولات التي لا تستهلك الكثير من الماء مثل النخيل. ونتيجة لارتفاع أسعار المواد الغذائية عالمياً خلال العامين المنصرمين جاءت مبادرة خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - للاستثمار الزراعي في الخارج، وصدر قرار مجلس الوزراء الموقر بتأسيس الشركة السعودية للاستثمار الزراعي والإنتاج الحيواني، وذلك لاستكمال منظومة الأمن الغذائي الوطني، ودعم نمو الشركات الزراعية وخدمة الاقتصاد الوطني من خلال تأمين امدادات المواد الغذائية الأساسية مثل الأرز والشعير والذرة والقمح والسكر وفول الصويا والزيوت النباتية والثروة الحيوانية والأعلاف، وحيث إن هناك عدداً من المعوقات أمام المستثمرين في المجال الزراعي والحيواني في الخارج يتمثل بعض منها في: * عدم سهولة الحصول على المساحات المطلوبة، وفي الأماكن المناسبة والتي تحقق جدوى الاستثمار الزراعي في الخارج. * عدم توفر البئية الأساسية المناسبة مثل الكهرباء والسكك الحديدية والموانئ. * عدم توفر الحقائق والمعلومات الاقتصادية والعلمية عن طبيعة الاستثمار في الدول المستهدفة. * مشاكل تتعلق بالتمويل والاستقرار السياسي والمناخ وضمان رأس المال المستثمر لذلك، فإن الإقبال على تلك المشاريع يحتاج إلى دراسة، وتمحيص من قبل جهات استشارية متمكنة تضع جميع الاحتمالات على محاولة البحث، وتدعم ذلك بالحلول العلمية التي تنير الطريق أمام المستثمر، وتضع له البدائل المناسبة. هذا من جانب، ومن جانب آخر، فإن القطاع الخاص قد تحرك هو الآخر في هذا الاتجاه حيث أعلن عن أنه سوف يتم اطلاق الشركة الدولية للاستثمار الزراعي والغذائي برأس مال قدره ملياري ريال، حيث ستركز تلك الشركة نشاطها الزراعي من أجل إنتاج المواد السابقة الذكر بالإضافة إلى إنشاء البنية الأساسية ذات العلاقة مثل منشآت التخزين والتبريد، وليس هذا فحسب بل إن كثيراً من رجال الأعمال قام فعلاً بممارسة ذلك الاستثمار، وكذلك الشركات الزراعية المتخصصة ناهيك عن اتجاه كثير من المستثمرين الأفراد إلى ذلك النوع من الاستثمار. ولعل أهم الدول التي تم الاستثمار فيها أو أنها مرشح قوي للاستثمار فيها هي السودان ومصر وأندونيسيا واثيوبيا وباكستان وكينيا وعدد من الدول الأخرى. إن الاستثمار الزراعي والحيواني في الخارج يعتبر باباً مفتوحاً على جميع الاحتمالات الايجابية والسلبية، ولذلك فإن التخريج القانوني لمثل تلك الاستثمارات يجب ان يكون أولاً حتى لا تصبح العاطفة أو الربح السريع هي المتحكم والدافع نحو الولوج في ذلك الخيار الذي لا شك بأنه واعد على ألا نربط مصيرنا به بصورة كلية، بل يجب التعامل معه كأحد الخيارات العديدة التي تحقق محصلتها ما نصبو إليه من أمن غذائي ومائي مستدام، نعم أننا دولة صحراوية شحيحة الموارد المائية، وبالتالي لابد من ان نقوم بعصف أذهاننا وعقولنا (branstorm) من أجل ان نضع مجموعة من البدائل التي تكمل بعضها البعض ولا تعتمد على بعضها البعض. أما إذا تحدثنا عن الدول العربية مجتمعة نجد ان الفجوة في الإنتاج الزراعي والحيواني في الدول العربية كان (18) بليون دولار عام (2007م) ويتوقع الخبراء ان ترتفع تلك الفجوة إلى (32) مليار دولار خلال الخمس سنوات القادمة. كما توقع الخبراء ان فاتورة مواد الغذاء لدول الخليج وحدها كانت تكلف (12) بليون دولار قبل عام (2007م) وقد قفزت خلال عام (2008م) إلى ما فوق (18) بليون دولار. هذا وقد أكد عدد من الخبراء على ان ارتفاع أسعار المواد الغذائية كان مسؤولاً عن (30%) من ظاهرة التضخم في دول مجلس التعاون الخليجي. وإذا عدنا إلى مبادرة خادم الحرمين الشريفين للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج نجد انه -حفظه الله- أصدر توجيهاته السامية الكريمة بتقديم كافة التسهيلات المناسبة للمسثتمرين السعوديين في الخارج في المجال الزراعي وعقد شراكات واتفاقيات ثنائية بين المملكة والدول المضيفة في مجال تشجيع الاستثمار الزراعي، هذا وقد رحب العديد من قادة وحكومات الدول بالاستثمار الزراعية السعودية على أراضيهم وقدموا الكثير من المساحات الزراعية للمستثمرين والشركات الزراعية السعودية. هذا وقد لعبت مجموعة كبيرة من المتغيرات والمستجدات أدواراً متفاوتة في الأزمة الغذائية العالمية، ولعل أبرز تلك العوامل تحويل بعض المنتجات الزراعية لإنتاج الوقود الحيوي وفرض حظر تصدير بعض المنتجات الزراعية مثل الأرز من قبل بعض الدول، كما ان لزيادة عدد السكان إثره الكبير على زيادة الاستهلاك، كما ان للاحتكار والمضاربات التجارية على السلع دورهما المشهود الذي لا يمكن اغفاله. من هذا كله يتضح ان تطبيق المثل القائل «ما خاب من استشار» هو الأساس في جميع فعاليات الحراك الإنساني والاستثماري مهما كبر أو صغر. خصوصاً أن عدد المراكز الاستشارية المعتبرة محدود، وكفاءتها متفاوتة وبما ان الحديث يتعلق بالاستثمار الزراعي في الخارج وحيث ان معهد الملك عبدالله للبحوث والدراسات الاستشارية هو المستشار الفني لاتفاقية تقديم الخدمات الاستشارية لمبادرة الملك عبدالله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج، فإن القاء نظرة على ذلك الصرح العلمي الاستشاري الذي قدم ويقدم العديد من الاستشارات في عدد غير محدود من البرامج والمجالات مرتكزاً في ذلك إلى قدرة جامعة الملك سعود على التفاعل مع احتياجات المجتمع المختلفة والمتغيرة، والعمل على تحقيقها من خلال الامكانيات العلمية الكبيرة اليت تملكها الجامعة. كما يتميز المعهد بوجود مستشارين متميزين في مختلف المجالات يندر ان اجتماعهم أو وجودهم في متناول مركز استشاري واحد، لذلك فهو يشكل بيت خبرة وطنياً بمقاييس عالمية لتقديم الدراسات والخدمات الاستشارية. هذا من ناحية ومن ناحية أخرى، فإن لدى المعهد أكثر من (4000) عضو هيئة تدريس في مختلف المجالات والتخصصات العلمية الدقيقة تشمل جميع أنواع العلوم، ناهيك عن توفر التجهيزات الأساسية التي تملكها الجامعة. هذا وقد استفاد من تلك الخدمات الاستشارية كل من القطاع العام ممثلاً بعدد كبير جداً من الدوائر والمؤسسات الحكومية والقطاع الخاص ممثلاً بعدد كبير من المؤسسات والشركات ورجال الأعمال، هذا وقد شمل ذلك وزارات الزراعة والشؤون البلدية والقروية والمياه والكهرباء وصندوق التنمية الزراعية وغرف التجارة والصناعة والهيئة العليا للسياحة وهيئة الغذاء والدواء والهيئة الوطنية لحماية الحياة الفطرية والشركات الزراعية وسابك وأرامكو والمؤسسة العامة لتحلية المياه المالحة والمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم والمؤسسة العامة للتعليم الفني وعدداً من الجامعات السعودية الحكومية والأهلية والهيئة العليا لتطوير مدينة الرياض ووزارة الدفاع والشركة الدولية لهندسة النظم وشركة النقل الجماعي وشركة سعودي أوجيه وعدداً من المستشفيات الخاصة والمختبرات الطبية وشركة الكهرباء وعدداً من رجال الأعمال بالإضافة إلى الاستشارات الفردية الأخرى.. وعلى العموم فإن المجالات الاستشارة وعدد المستفيدين منها لا يمكن حصره في مقال. أما إذا عدنا إلى موضوع اتفاقية تقديم الخدمات الاستشارية لمبادرة الملك عبدالله للاستثمار الزراعي السعودي في الخارج التي يقوم بها معهد الملك عبدالله للبحوث والدراسات الاستشارية، فإننا نجد ان أهم إنجازات المعهد في ذلك المجال يمكن تلخيصها في: * إعداد دراسة لبعض التجارب الدولية الناجحة في الأنماط والنماذج التنظيمية للاستثمار في الخارج وتقييم النماذج المقترحة من الجهات المختلفة واقتراح النموذج الأمثل. إعداد تقرير اقتصادي زراعي عن الدول المستهدفة بالاستثمار قبل الزيارات الاستكشافية يوضح الفرص والمعلومات والنقاط الهامة التي يجب استيفاؤها خلال الزيارات الميدانية. * تقديم الدعم الفني للفرق الفنية أثناء زياراتها الاستكشافية للدول المضيفة وجمع وتحليل البيانات المتعلقة بمقومات وجدوى الاستثمار الزراعي في تلك الدول. * تقديم تقرير عن الفرص الاستثمارية لكل دولة مستهدفة يتضمن كافة الجوانب الفنية والاقتصادية والتوصيات وتقديم دليل استثماري زراعي عن تلك الدولة. * عقد ورش عمل للمستثمرين لعرض الفرص الزراعية المتاحة في الخارج. وفي الحقيقة فإن تجربة وخبرة معهد الملك عبدالله للبحوث والدراسات الاستشارية كبيرة ومتراكمة مما جعل منه واجهة استشارية يعتد بها وتفتخر جامعة الملك سعود بإنجازاته على المستويين المحلي والخارجي. ولعل من أهم العوامل التي تساعد على التواصل مع القطاعات الإدارية والصناعية والاقتصادية والاجتماعية والأمنية إقامة فروع له خارج مقر الجامعة بما في ذلك فروع في المناطق والمحافظات، وذلك لتسهيل عملية الوصول إليه وتواصله مع الفعاليات والقطاعات التي تحتاج إلى خدماته المتميزة. نعم ان المراكز الاستشارية في الجامعات السعودية تعتبر نقلة نوعية للتعليم العالي في المملكة حيث تضيف بعداً هاماً إلى مهمات ذلك القطاع التي لا يمكن حصرها في عجالة ولكن يمكن ذكر بعض منها مثل تخريج أجيال مناسبة لسوق العمل والتركيز على البحث العلمي والدراسات العليا وزرع روح الإبداع والابتكار وتوطين التقنية وخدمة المجتمع وبروزها كجهات استشارية على درجة عالية من المهنية، لذلك فإن تعميم تجربة معهد الملك عبدالله للبحوث والدراسات الاستشارية التابع لجامعة الملك سعود ومثيلاته في كل من جامعة الملك عبدالعزيز وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن أصبح ذا أهمية بالغة وذلك لحاجة السوق المحلية إلى مثل تلك المراكز الاستشارية المتميزة. وهنا لابد من الاشادة بما تبذله وزارة التعليم العالي من جهود في سبيل الرقي بالتعليم العالي والبحث العلمي وتبوؤ الجامعات مراكز مرموقة على المستوى الدولي تحقيقاً لرؤية خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز الذي يولي التعليم العالي جل اهتمامه، والذي تمثل في وصول عدد الجامعات الحكومية إلى أربع وعشرين جامعة ناهيك عن عدد كبير من الكليات الجامعية المتخصصة والجامعات الأهلية العديدة، وفي مقدمة ذلك كله جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية التي تعتبر أنموذجاً في التنظيم والانفتاح والبرامج والأهداف والتي أصبحت تشكل واسطة العقد بين الجامعات المحلية والاقليمية والدولية. والله المستعان،،،