الأمانة والصدق كلمتان غير متساويتين في المعنى والدلالة إلا أنهما متلازمتان عملاً وأهمية.. والرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الصادق الأمين. وغني عن القول إن الصدق والأمانة هما الذروة لسنام القيم الإسلامية، بل إنهما قيمتان إنسانيتان منذ القدم وفي سائر الأديان.. والحضارات. الأمانة فطرة، والصدق هبة من الله، ومن سعد بالتقائهما فيه سعد بالحياة الدنيا والآخرة. وليتنا في سائر حياتنا وشؤوننا نختار الأمين الصادق ليتولى إدارة هذه الشؤون وتسييرها. * * * ولا شك أن الكفاءة والتخصص في العمل ضرورة لنجاح ما يقوم به المسؤول.. لكن الصدق والأمانة مقدمتان على الكفاءة والتخصص بل إنهما شرطان لازمان إذ لا قيمة للكفاءة والتخصص عند غياب الأمانة وضياع الصدق.. فما أجمل أن يكون المرء صادقاً مع نفسه وغيره.. لا يخدع ولا يموِّه؛ فكل خداع حتماً سينكشف، وكل تمويه بالضرورة ستظهر حقيقته. * * * وما أكرم أن يكون الإنسان أميناً في تعامله مع نفسه والناس أيضاً؛ إذ الخيانة وصمة عار مرفوضة، وصفة خزي منبوذة، والأمانة بكل معانيها ودلالاتها هي السمة الكريمة التي خص الله بها الإنسان وحده (إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان...) حمل الإنسان الأمانة وما يترتب عليها من مسؤوليات ذات أبعاد شاملة كثيرة. أليست الأمانة من الإيمان، فالخائن ليس وثيق الإيمان. أليست الأمانة من الأمن، فالخائن قلق مرتبك مزعزع، دائماً يخشى اكتشاف أمره. نعم.. الصدق والأمانة سمتان متلازمتان، فالصادق في قوله أمين على الحق الذي يقوله.. والأمين صادق الحفاظ على ما يسند إليه من أمانات. * * * يفهم بعض الناس أن الأمانة هي مجرد الحفاظ على ما يودع لديهم من أموال أو أشياء، ويعطونها لصاحبها حين طلبها، وهذه هي أصغر الأمانات. إنه من الخير للمرء أن يكون أميناً صادقاً مع نفسه وهو يعمل في مكتبه، أو مصنعه، أو مزرعته، لا يخالف الحقائق، أو يزيف الأرقام إدعاء النشاط أو زيادة الأداء. كما يجب أن يكون أميناً في عمله - لا يغير الحقائق التي تقوم عليها حقوق الناس ومطالباتهم.. أميناً في تنفيذ كل ما يوكل إليه بالمواصفات المطلوبة نفسها والجودة المحددة كلها.. مع إتقان وإجادة في التنفيذ، ونزاهة نفس، وطهارة يد، بعداً عن كل ما يخدش الأمانة أو يفسد الصدق. أميناً في نصحه للآخرين بما فيه الخير والسعادة.. لا يُوقعهم في شراك الضرر أو الخسارة.. أو سوء التقدير عند رؤسائهم نتيجة شيء في نفسه نحوهم. * * * وبكل يقين أنه لا يمكن أن تشتهر صناعة من الصناعات وتنجح مهما كان مصدرها ونوعها إلا إذا كانت شركاتها أمينة في اختيار مركباتها.. أمينة في تقديم جودة تكوينها.. فهذه سيارات معمرة، وتلك أدوات منزلية غالية.. لكونها متميزة في صناعتها خالية من الغش في مواردها. أما الرديء من الصناعات حتى وإن اشتهر بين بعض الناس فإنه سرعان ما يسقط في حرب الصناعات المتميزة. وهكذا المنتجات المغشوشة الأخرى.. التجارية، والزراعية، والعمرانية، والإنشائية، والبقاء دائماً للأصلح والأجود، وحتى لو انطلى شكل الأعمال والمشروعات دعائياً وظاهرياً.. فإنه حتماً ستتعرى وتنكشف عندما تتعرض للاختبار، وتواجه الأحداث، والمثل الشعبي يقول: (حبل الكذب قصير). * * * هذا معلم أمين اشتهر بين طلابه بالثقة فيه، وبين رؤسائه بالتقدير له.. لأنه أمين بحق على طلابه.. أمين في إعطاء علمه وإعداد درسه.. لا يخشى مفاجأة مشرف أو زائر، وكم من اكتشافات مهنية مخزية، وخسائر مادية ومعنوية مؤسفة وقع فيها أصحابها غير الأمناء في أعمالهم.. غير الصادقين في تقاريرهم. وهذا مسؤول كبير اجتهد مخلصاً صادقاً أميناً متحرياً الدقة متابعاً الجودة فيما يؤدى من أعمال أو مشروعات في إدارته فنال رضا الله أولاً، والذكر الحسن والسمعة الطيبة من الناس طول حياته وبعد مماته، وتبقى هذه الذكرى العطرة ببقاء ما أنجز مخلصاً أميناً من مشروعاته. * * * قدم أوراق عملك، وجهز تقارير معاملات وافية صادقة دون تغيير، تلق الثقة والتقدير من رؤسائك، فهم ليسوا من البلاهة حتى تنطلي عليهم التغييرات، أو تخدعهم استبدالات الحقائق، لأنهم وإن طال خداعك لهم حتماً سيكتشفونه يوماً.. فكم من موظف نال ترقية بسبب أمانة عطائه، وكم من عامل نال جوائز ثمرة صدقه في تنفيذ عمله. هناك من عوقبوا بالخصم المالي.. بل بالنقل الإداري أو الفصل النهائي، لأنهم زيفوا وغيروا وخدعوا. حياتنا العملية في الوظائف العامة والأعمال الخاصة تحتاج في كثير من الأحيان وعند بعض الناس إلى هزة نفسية قوية، وصحوة ضمير عاجلة؛ تجعلهم يؤدون أعمالهم كما يجب أن تؤدى، ويتعاملون مع وظائفهم كما هي الأمانة أن تعامل دون تأثر بما قد يكون من خيانات الآخرين، أو إهمال بعض المقصرين.. أو مجاراة لمن يراهم حوله من المهملين الخائنين. * * * ولست أُكثُر من الحديث عن هؤلاء وهؤلاء إذ تكفي العبرة والعظة درساً عملياً عظيماً من هذه القصة الواقعية الحقيقية لتكون نبراساً لكل العاملين، وأسوة لكل الموظفين، ونموذجاً لكل الأمناء المخلصين الصادقين، وتؤكد أن الصدق في العطاء والأمانة في الأداء حتماً ستؤدي إلى الفوز، والترقي، والخير، والتقدير، والثناء. وإليكم هذه الحكاية الواقعية التي هي أكثر وعظاً من ألف خطيب، وفائدة أكثر من ألف ناصح فصيح: في صباح يوم ربيعي والشمس الدافئة تنساب إلى مكتب رجل الأعمال العجوز والرئيس التنفيذي للشركة التي يملكها اتخذ قراراً بالتنحي عن منصبه وإعطاء الفرصة للدماء الشابةالجديدة بإدارة شركته، لم يُرِد أن يوكل بهذه المهمة لأحد أبنائه أو أحفاده، وقرر اتخاذ قرار مختلف؛ استدعى كل المسؤولين التنفيذيين الشباب إلى غرفة الاجتماع وألقى بالتصريح القنبلة، لقد حان الوقت بالنسبة لي للتنحي واختيار الرئيس التنفيذي القادم من بينكم؛ تسمَّر الجميع في ذهول، واستمر قائلاً: ستخضعون لاختبار عملي وتعودون بنتيجته في نفس هذا اليوم من العام القادم وفي نفس هذه القاعة: والاختبار سيكون كالتالي: سيتم توزيع البذور النباتية التي أتيت بها خصيصاً من حديقتي الخاصة، ويستلم كل واحد منكم بذرة واحدة فقط، يجب عليكم أن تزرعوها وتعتنوا بها عناية كاملة طوال العام، ومن يأتيني بنبتة صحية تفوق ما لدى الآخرين سيكون هو الشخص المستحق لهذا المنصب العام، وكان بين الحضور شاب يدعى «جيم» وشأنه شأن الآخرين، استلم بذرته، وعاد إلى منزله، وأخبر زوجته بالقصة، أسرعت الزوجة بتحضير الوعاء والتربة الملائمة والسماد، وتم زرع البذرة، وكانا كل يوم لا ينفكان عن متابعة البذرة والاعتناء بها جيداً.. بعد مرور ثلاثة أسابيع بدأ الجميع في الحديث عن بذرته التي تمت وترعرعت ما عدا «جيم» الذي لم تنم بذرته رغم كل الجهود التي بذلها... مرت أربعة أسابيع، ومرت خمسة أسابيع ولا شيء بالنسبة «لجيم»، ومرت سنة أشهر، والجميع يتحدث عن المدى التي وصلت إليه بذرته من النمو، «وجيم» صامت لا يتحدث، وأخيراً أزف الموعد، قال «جيم» لزوجته إنه لن يذهب إلى الاجتماع بوعاء فارغ، ولكنها قالت علينا أن نكون صادقين بشأن ما حدث، وكان يعلم في قرارة نفسه أنها على حق، ولكنه كان يخشى من أكثر اللحظات الحرجة التي سيواجهها في حياته، وأخيراً إتخذ قراره بالذهاب بوعائه الفارغ رغم كل شيء، وعند صوله انبهر من أشكال وأحجام النباتات التي كانت على طاولة الاجتماع في القاعة، كانت في غاية الجمال والروعة.. تسلل «جيم» في هدوء ووضع وعاءه الفارغ على الأرض وبقي واقفاً منتظراً مجيء الرئيس مع جميع الحاضرين، كتم زملاؤه ضحكاتهم، والبعض أبدى أسفه من الموقف المحرج لزميلهم، وأخيراً أطل الرئيس ودخل الغرفة مبتسماً، عاين الزهور التي نمت وترعرعت، وأخذت أشكالا رائعة، ولم تفارق الرئيس البسمة شفتيه، وفي الوقت الذي بدأ في الكلام مشيداً بما رآه مهنئاً الجميع على هذا النجاح الباهر الذي حققوه توارى «جيم» في آخر القاعة وراء زملائه المبتهجين الفرحين.. قال الرئيس: يا لها من زهور ونباتات جميلة رائعة! اليوم سيتم تكريم أحدكم وسيصبح الرئيس التنفيذي القادم، وفي هذه اللحظة لاحظ الرئيس «جيم» ووعاءه الفارغ فأمر المدير المالي أن يستدعي «جيم» إلى المقدمة.. هنا شعر «جيم» بالرعب وقال في نفسه: بالتأكيد سيتم طردي اليوم، لأني صاحب الوعاء الفاضي الوحيد في القاعة، عند وصول «جيم» سأله الرئيس: ماذا حدث للبذرة التي أعطيتك إياها؟ قص له ما حدث له بكل صراحة، وكيف أخفق رغم كل المحاولات الحثيثة لرعاية البذرة، كان الجميع في هذه اللحظة قائمين ينظرون ما الذي سيحصل؛ فطلب منهم الرئيس الجلوس ما عدا «جيم» ووجه حديثه إليهم قائلاً: رحبوا بالرئيس التنفيذي المقبل «جيم». جرت همسات وهمهمات واحتجاجات في القاعة، كيف يمكن أن يكون هذا؟. وتابع الرئيس قائلاً في العام الماضي كنا هنا معاً وأعطيتكم بذوراً لزراعتها، وإعادتها إلى هنا في هذا اليوم، ولكن ما كنتم تجهلونه هو أن البذور التي أعطيتكم إياها كانت بذوراً فاسدة، ولم يكن بالإمكان لها أن تنمو إطلاقاً؛ جميعكم أتيتم بنباتات رائعة وجميلة.. جميعكم استبدل البذرة التي أعطيتها له، أليس كذلك؟! «جيم» كان الوحيد الصادق والأمين، والذي أعاد البذرة نفسها التي أعطيتها إياها قبل عام مضى، وبناء عليه تم اختياره رئيساً تنفيذياً لهذه الشركة.. والقصة التي عرفنا أحداثها الآن تُختتم بالحكم الآتية: إذا زرعت الأمانة فستحصد الثقة إذا زرعت الطيبة فستحصد الأصدقاء إذا زرعت التواضع فستحصد الاحترام إذا زرعت المثابرة فستحصد الرضا إذا زرعت التقدير فستحصد التبجيل إذا زرعت الاجتهاد فستحصد النجاح إذا زرعت الإيمان فستحصد الطمأنينة لذا كن حذراً اليوم مما تزرع، لتحصد غداً؛ وعلى قدر عطائك في الحياة تأتيك ثمارها. * * * هذه هي قصة (جيم) كيف نال المصنب العالي والتقدير السامي لأنه صادق، أمين، لم يزور، ولم يخدع رئيسه.. ولأنه لم يبدل المعطيات الملقاة عليه؛ فإن كنت مثله فسر على بركة الله ولا تُبدل الطريق والنجاح حليفك بحول الله. * * * وإن كنت ممن تلعب بهم أهواء الضرر ومسالك الهوى فأقلع عن ذلك الضرر، والطمع وعُد للصواب واسمع معي الحكمة العظيمة الهادفة في قول الشاعر: قد يستلذ الفتى ما اعتاد من ضرر حتى يرى في تعاطيه المسراتِ أغبى البرية أرفاهم لعادته وأعقل الناس خراق لعاداتِ نعم أن بعض الناس يرون المسرات في أعمال هي ضرر لهم ولمن حولهم، ومن ذلك الجشع الذي يقود إلى الحصول على ما ليس حلالا حقاً ولا مكتسباً، والحكمة تقول: إن أعقل الناس من تخلى عن سيء عاداته، ونزواته. وقهر مغريات الفساد والانحراف. نجاة بنفسه من مغبة آخره هذه السلوكيات المدمرة. * * * وفقنا الله جميعاً إلى الخير والصواب والأخذ بأسباب القوة مهما غلا ثمنها، اللهم أجعل صدورنا سليمة معافاة، وأمِدَنا يا ربنا بتأييد من عنك وتسديد.