من المعروف أن أغلب الماء الصالح للشرب المتوفر على سطح الأرض أو في باطنها يأتي من المطر. كما أنه من المعروف أيضاً أن الماء هو أساس الحياة. ولذلك فإن المطر نعمة ندعو الله ألا تنقطع. ولهذا السبب سنت صلاة الاستسقاء عند الجدب وانقطاع المطر لأن مثل ذلك الانقطاع يضر بالبلاد والعباد.. أما إذا ازداد المطر عن حدود معينة، فإنه يتحول إلى كارثة تسبب الهلاك والغرق، ولهذا يسن الدعاء بزوالها وهطولها على الأكام والهضاب البعيدة حتى لا يتضرر الناس. والعرب لديهم تراث إنساني هائل عن المطر إلى درجة تسمح بأن نقول إن العرب ربما يكونون من أكثر الشعوب فرحاً بالمطر ورغبة في هطوله والحديث عنه وتناقل أخباره، فهم يتباشرون به ومازالوا يفرحون به كما يفرحون بالحياة. وذلك لأن المطر يشكل محور حياتهم، ولذلك تجده في أشعارهم وأمثالهم وأحاجيهم وجميع موروثهم الثقافي والاقتصادي والاجتماعي. وعلى العموم فإن أرض العرب لازالت في أغلبها صحارى مقفرة قليلة الأمطار تنشد الحياة بقدومه على الرغم من أنه يسبب الكوارث في بعض الأحيان. أما سبب أن المطر يسبب الكوارث في بعض الأحيان، فإن ذلك يعود إلى أسباب محورها الإنسان ونشاطاته وتعدياته على البيئة ومفرداتها. وعلى العموم فإن كثيراً من العلماء يعتقدون أن الإنسان قام ويقوم بإحداث تغييرات على سطح الأرض وفي غلافها الجوي ينذر بحدوث كوارث طبيعية أكثر تكراراً وأشد فتكاً من ذي قبل، كما أنهم يعتقدون أن الإنسانية تمر بمرحلة اختبار ومخاض ضخم وغير مضبوط على كوكب الأرض تجدد نتائجه مستقبل وجودهم على ذلك الكوكب الذي ليس لهم مأوى سواه. نعم نشاطات الإنسان غير المنضبطة هي السبب الرئيسي، فيما يسمى بظاهرة الاحتباس الحراري التي أصبحت حديث الساعة في الأوساط الرسمية والعامة، والكل يدرك هذه الأيام خطورتها على مستقبل البشرية والكائنات الحية الأخرى، ولعل من أهم العوامل التي أدت وتؤدي إلى تغيير المناخ إطلاق الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والنيتروجين والأمونيا، ناهيك عن التصحر الناتج عن إزالة الغطاء النباتي، إما بسبب الجفاف أو بفعل الإنسان هو السبب الرئيسي لاستمرار ظاهرة الغبار الذي له دور أساسي بهذا الخصوص. ليس هذا فحسب، بل إن لثقب الأوزون وللحروب آثاراً قوية على المناخ فحروب منطقة الخليج خلال العقدين الأخيرين أدت إلى ارتفاع درجات الحرارة واستمرار وتيرة الغبار في هذه المنطقة التي تشمل العراق ودول الخليج والدول المجاورة الأخرى. ولا شك أن التغيرات المناخية وأسبابها، من أهم العوامل التي دعت الدول المتقدمة إلى الحراك على جميع المستويات ودعوة الدول الأخرى للحراك أيضاً في سبيل الحد من ظاهرة الاحتباس الحراري، وقد تمثل ذلك على شكل مؤتمرات، وعقد اتفاقيات من أهمها اتفاقية كيوتو وما تلاها. ولعل من أهم مظاهر الاحتباس الحراري ارتفاع درجة حرارة الأرض، وهذا هو المسؤول عن ظاهرة تقلص الغطاء الجليدي في المناطق القطبية وذوبان الأنهار الجليدية، كما أنه المسؤول عن ارتفاع منسوب مستوى مياه البحار، ناهيك عن أنه السبب في تفاقم ظاهرة الفيضانات والتقلبات المناخية غير المعتادة. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن التغيرات المناخية لها آثار سلبية أخرى تتمثل في أنها مسؤولة عن انتشار أكثر من اثني عشر مرضاً مميتاً ما بين انفلونزا الطيور والخنازير إلى الحمى الصفراء والطاعون والكوليرا، كما أن ارتفاع درجة الحرارة والجفاف وزيادة عدد السكان وتردي الأوضاع الاقتصادية سوف تفرض أوضاعاً خطيرة على الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مناطق مختلفة من العالم خلال الفترة من (2010) إلى (2030). ومن المحتمل أن تكون منطقة الشرق الأوسط واحدة من تلك المناطق، خصوصاً أنها تعاني من ضعف أو غياب مراكز الدراسات الاستراتيجية التي تقوم بوضع الخطط العلمية المدروسة لمواجهة الأزمات أو التنبؤ بحدوثها أو التقليل من آثارها. لذلك يتوقع الخبراء بروز صراعات ونزاعات على مصادر المياه ومصادر الطاقة وإثارة النزاعات الحدودية ناهيك عن بث روح الفرقة من خلال بث روح المناطقية والطائفية والعصبية القبلية وتصنيف أبناء الشعب الواحد إلى متطرف ولبرالي على غير أساس صحيح. نعم إن تكامل مراكز الدراسات الاستراتيجية مع أجهزة إدارة الأزمات والكوارث من أهم الفعاليات التي مكنت وتمكن الدول المتقدمة وكذلك الدول التي تنشد التقدم من سبر أغوار الأزمة أو الكارثة قبل وقوعها، وبالتالي وضع الخطط لتلافيها أو الحد من آثارها، أما الكوارث التي تحيط بالإنسان فهي نوعان: الأول كوارث طبيعية وهذه يمكن أن تكون طارئة أو متأصلة. والنوع الثاني كوارث مفتعلة وهذه قد تكون سياسية عسكرية أو أخلاقية قيمية. والمصيبة الكبرى تحدث عندما يجتمع النوعان معاً، أي عندما يزيد من تفاقم الكارثة الطبيعية القصور الإنساني المتعمد. وعلى العموم فإن الكوارث الطبيعية قد تكمن لفترة زمنية قد تطول وقد تقصر، لكنها من المؤكد أنها تعود، ويشمل ذلك الزلازل والبراكين والعواصف والفيضانات، ولعل إعصار جونو الذي ضرب سلطنة عمان قبل عامين لم يكن الوحيد الذي اجتاح السلطنة، فقد سبقه إليها عدة أعاصير مدمرة في كل من أعوام (1906م) و(1948م) و(1951م) و(1959م) و(1977م). ولذلك يجب عدم الاستسلام بأننا نعيش في منطقة آمنة نسبياً من الكوارث الطبيعية، فهذا الاستسلام ليس علمياً وليس من الحكمة بمكان، ولا أدل على ذلك من حدوث الهزات الأرضية المتتابعة في منطقة الشاقة خلال هذا العام وحدوث كارثة جدة التي حدثت الأسبوع المنصرم. وفي كلتا الحالتين تم التعامل مع الكارثة بصورة آنية اجتهادية. ولذلك فإن كلاً من الحدثين يجب أن يستفاد منهما للتعامل مع ما هو أشد منهما لا قدر الله. ولعل إنشاء جهاز يهتم ويتخصص بإدارة الكوارث يأتي في المقدمة وذلك على غرار ما هو موجود في الدول المتقدمة، حيث يوجد في كل منها مراكز لإدارة الكوارث والأزمات لديها برامج لتعبئة الموارد في زمن الكوارث والأزمات. وهذا يعني أن كل منطقة يجب أن يوجد بها مركز لإدارة الكوارث الطبيعية أو الصناعية أو غيرها مزود بأحدث الأجهزة والدعم اللوجستي وعلى أهبة الاستعداد بحيث لا يترك شيء للصدفة، وذلك من خلال تكامله مع أمانة عامة للإنذار المبكر تكون مهمتها تفعيلاً لكامل الأدوار لبناء نظام فعّال للإنذار المبكر. إن لدينا أجهزة عديدة مهمتها سن القوانين أو المواصفات أو التغيرات المناخية، لكن تطبيق تلك الأنظمة أو المواصفات أو التعامل مع مستجدات الأحوال الجوية تقوم به جهات أخرى عديدة مما يشكل عائقاً أمام التنفيذ أو تعطيله، لذلك فإن قيام كل جهة بالتعامل مع ما خصصت له بتعاون الجهات أمر مطلوب. وإذا عدنا إلى التعامل مع كارثة جدة التي أصبح لها آثار بيئية واجتماعية وتنظيمية لم تفق منها حتى الآن نجد أن أهم أسباب تلك الكارثة تكمن فيما يلي: * الركون والاستسلام إلى عدم حدوث كوارث لأنه لم يحدث شيء من هذا منذ فترة زمنية بعيدة، وهذا يحتم الرجوع إلى تاريخ الكوارث الطبيعية التي مرت بها منطقة مكةالمكرمة وغيرها من المناطق، وذلك من أجل أخذ ذلك بعين الاعتبار عند التخطيط أو التنفيذ. * المفاجأة وعدم وجود إنذار مبكر فعّال واكتفاء الجهة المعنية بالإنذار بالتبليغ وعدم المتابعة، والتأكد من اتخاذ الإجراءات اللازمة ناهيك عن عدم امتلاكها للصلاحيات والإمكانات التنفيذية. * عدم أخذ المنظور البيئي ومجاري السيول مثل الأودية والشعاب بعين الاعتبار عند تخطيط الأراضي وتنفيذ المشاريع، وخير مثال على ذلك أن وادي (أبو قوس) الذي كان يصب في البحر تم ردمه وشق طرق عليه مع ترك عبارات صغيرة ناهيك عن ردم ضفافه وإقامة مبان عليها وهذا تم بمعرفة الجهات المختصة. إن مثل هذه التصرفات هي المسؤول الأول عن الكارثة وليس كمية المطر. نعم السيل لا ينسى مجراه أو كما يقول المثل «السيل يأخذ حقه بيده» وللتذكير فقط كلنا يعرف أن السدود التي تقام على الأودية والأنهار يوجد فيها فتحات تحكم تسمح للفائض من المياه المحجوزة العبور، وذلك حتى لا تجرف السد وتدمره. * عدم التزام المقاولين وكذلك الجهات المسؤولة عن إقامة مشاريع تصريف مياه الأمطار والصرف الصحي أو إقامة الجسور أو تعبيد الطرق أو تصميم الأنفاق الاستيعابية والتحمل، خصوصاً عند حدوث ظروف استثنائية ناهيك عن عدم التصميم أو التنفيذ. إن ما حدث في جدة يفسره المثل الذي يقول «الميه تكذب الغطاس». * غياب الرقابة الجادة والصارمة أثناء تنفيذ المشاريع وعدم اخضاع المشروع للاختبار والتجربة عند الاستلام، ناهيك عن أن فترة ضمان جودة المشروع والمنشآت ومطابقتها للمواصفات قصيرة ومحدودة، وربما ساعد على حدوث تلك التجاوزات ندرة المطر وتباعد مواسم هطوله. وهنا لا بد من الإشادة الصادرة من الأعماق بالموقف التاريخي والشجاع للملك العادل عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - الذي كان شفافاً وقوياً وإنسانياً في قراراته التي أصدرها من أجل محاسبة المسؤولين عن كارثة جدة والمخلين بالأمانة، سواء كانت جهات أو أشخاصاً، وكذلك تشكيل لجنة لتقصي الحقائق على مستوى رفيع برئاسة أمير منطقة مكةالمكرمة. كما أن لقراراته بعداً إنسانياً يخفف من آلام المفجوعين، وقد تمثل ذلك بتعميده وزارة المالية بصرف مليون ريال لذوي كل شهيد غرق وتعويض المتضررين عن ممتلكاتهم. نعم إن مثل تلك القرارات سوف تضع الأمور في نصابها وسوف يعلم الذين ظلموا أي منقلب ينتظرهم ليس في جدة فقط بل في كل مكان داخل المملكة. نعم إن قرارات الملك عبدالله واضحة وشفافة وقوية ورادعة. ولعل مسار التحقيق يخضع هذه الكارثة للدراسة والتمحيص واستخلاص العبر. كما يجب أن يشمل ذلك إعادة تقييم جميع المنشآت ذات العلاقة في مدينة جدة وغيرها من المدن الكبرى لفضح التلاعب إن وجد قبل حدوث كارثة أخرى. وعلى العموم فإن الحاجة ماسة لإنشاء مركز لإدارة الكوارث والأزمات وأمانة عامة للإنذار المبكر خصوصاً أن المملكة لديها عدد كبير من المؤسسات المؤهلة لكن عيبها أن كلاً يعمل على شاكلته دون تكامل فعّال. وهنا لا بد من الإشادة بما حققته من نجاح في مجال إدارة كارثة الإرهاب حيث إن الدعم والتدريب لرجال قوى الأمن مكنهم من تحجيم الإرهاب والقيام بضربات استباقية ومن ثم القضاء المبرم عليه. كما أن للمملكة تجربة رائدة في مجال إدارة الحشود البشرية من خلال النجاح في خدمة ضيوف الرحمن حيث سخرت الدولة لهذا الغرض كل إمكانياتها المادية والبشرية واللوجستية. وعليه فإن تعميم هاتين التجربتين ليشمل جميع أنواع الأزمات والكوارث كفيل بتبوؤ المملكة مركزاً أكثر تقدماً ومكانة عالمية مرموقة تضاف إلى سجلها الحافل بالإنجاز والعمل الصالح. والله المستعان.