في البدايات الأولى لظهور مرض الإصابة بفيروس (H1N1)أو ما يسمى بأنفلونزا الخنازير كنت في الولاياتالمتحدةالأمريكية أحضر دورة تدريبية تعقدها الكلية الأمريكية للأطباء التنفيذيين وتحديدا في شيكاغو...و في آخر ثلاثة أيام كنت ألاحظ الرعب يتصاعد في وسائل الإعلام ولدى الناس من حولي عن هذا المرض الغامض!!...وكنت كلما تابعت الأخبار في الصباح الباكر كان الحديث حوله يطغى على النشرات الإخبارية والبرامج الحوارية... وفي اليوم قبل الأخير حضر للدورة عدد من كبار المستشارين الذي أتوا للتو من البيت الأبيض بعد نقاشهم مع الرئيس الأمريكي ومستشاريه حول خطط الطوارئ لمواجهة هذا المرض ... وقد تم إعطاؤهم حوالي خمس عشرة دقيقة –خارج برنامج الاجتماع- للحديث عن الجديد والذي زاد الأمر غموضا لدى الحاضرين حتى قال أحد المستشارين مجيبا على أحد الأسئلة...إننا لا نعلم إن كان هذا الفندق (حيث كان الاجتماع) هل سيبقى مفتوحا أم مغلقا الأسبوع القادم؟!!...وعندما سأله أحد كبار التنفيذيين ماذا نعمل الآن على المستوى الشخصي فأجاب المستشار بكلمة واحدة... هي المحافظة على غسل اليدين خمس مرات باليوم!!! الأمر الذي كان يزعجني كثيرا هو قلق من كانوا وراء البحار من عائلتي وخصوصا والدتي حيث كنت على اتصال بهم يوميا...وكنت أتلقى عدداً كبيراً من النصائح والمقترحات...وكان من بينها تجنب اللحوم حيث قد تكون شرائح هذه اللحوم قد رقدت بجانب شرائح لحم الخنزير...!! ولا أخفي سراً بأنني في الساعات الأخيرة انتابني القلق بصورة جادة...وكنت أدعو الله عز وجل أن يرجعني سالما وبالذات من هذا المرض الغامض!! إلا أن ما كنت قلقا منه أن يصيبني هناك...أصابني و بعض أفراد عائلتي هنا بعد عدة أشهر!!! حقا لا مفر من قدر الله إلا إلى قدر الله تعالى... لن أتكلم عن تفاصيل التشخيص والعلاج....ولا حتى عن اللغط الحاصل حول اللقاح!!... فهذا دور الجهات المختصة و المسئولة عن صحة الناس ولكن سأطرح بعض النقاط الأخرى حول هذه التجربة التي مررت وعائلتي بها راجيا من الله أن يكون فيها مشاركة للتوعية الصحية حول هذا المرض: عند ثبوت التشخيص وجدت حرجا شديدا وترددا في الوسط العائلي لإخبار الآخرين مما ألم بنا!!....وكان الأنظار والكلمات ونبرات الصوت عبر الهاتف يشوبها الكثير من الخوف والهلع مع شيء من الاستغراب حول إصابتنا بهذا المرض...يعقبها دعوات حارة وصادقة بالحفظ والشفاء....أحد أقرب الأصدقاء من الاستشاريين عندما أخبرته لم يكن مصدقا في البداية... ثم أرسل لي رسالة نصية يستحلفني بالله عن صدق ما ذكرت له!!...ومتخصص آخر كان بيني وبينه موعد بادرت بتأجيله حتى انتهاء الأعراض حرصا على سلامته...و بعد انتهائها بأيام حاولت أن أقنعه بلقائنا فبدأ بالاعتذار وفضل تأجيله أسابيع!!!... لقد كنت مضطرا لأن أكون صريحا للإخبار بذلك عند الاعتذار من إجابة دعوات الأقارب والأحبة...و من استقبالهم أيضا في منزلي في فترة العيد حرصا على صحة الآخرين وخوفا عليهم من التقاط المرض. وجدت أن من أهم الأمور بعد عناية الله وحفظه هو الالتزام بالهدوء عند معرفة الإصابة به حيث هذا يقود إلى ترتيب الأوراق وتطمين النفس ومن حولك وأن هذا عارض يسير وسيزول بإذن الله تعالى... التحدي الكبير كان في الأطفال وإلزامهم بالراحة ونوعية الغذاء والسوائل المناسبة لهذا المرض...إضافة إلى أخذ العلاج شديد المرارة!!...وكان تحديا كبيرا أيضا في محاولة عزلهم عن الآخرين في مناسبة كمناسبة العيد حيث يلتقي ويفرح الجميع...كان الوقت طويلا ومملا بالنسبة لهم...فلا زيارات ولا أسواق ولا مطاعم بل ولا حتى لعب في الحديقة القريبة خوفا على أطفال الآخرين ... -عزلة تامة عن الأماكن العامة- بنتي الصغيرة تقول لي: "بابا...هل نحن في سجن"!!. من المفارقات العجيبة أنني امتنعت عن الصلاة في المسجد جماعة....ولكن هذه المرة طلباً للأجر!!...نعم فالمصلحة العامة هنا مقدمة على المصلحة الشخصية...وكنت أستغرب أشد الاستغراب ممن كان يحضر للمساجد في رمضان لصلاة التراويح "غير الواجبة" طالباً للأجر وعليه أعراض المرض أو بعضها ويبقى قريبا وملاصقا للمصلين وقتا طويلا ضاربا بمصلحة الجميع عرض الحائط.... ومثل ذلك كان الامتناع عن صلة الرحم وإجابة الدعوات....أيضا طلباً للأجر والمثوبة واحتسابا للحفاظ على صحة وسلامة الآخرين... مرت التجربة بسلام ولله الحمد والمنة وله الشكر والفضل...ولم تخلو من معاناة...ولكنني عندما أنظر الآن إلى الهلع الكبير الذي ينتاب كثيراً من الناس عن هذا المرض أجد أن هذا مبالغ فيه ... وهذا ما دعاني لتسطير هذه الكلمات رغم آراء المعارضة والتحفظ من بعض القريبين لي من نشرها ... أعتقد أن سلوكنا التوعوي حول المرض يحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر. حمى الله الجميع من كافة الأمراض والأدواء والأسقام. * استشاري وأستاذ مشارك كلية الطب-جامعة الملك سعود