السودان قفز من الهامش إلى الاهتمام به، وتسليط الأضواء عليه، والأسباب كثيرة يأتي على أولوياتها أنه البيئة الخام التي تمتلك إمكانات هائلة، وهو رصيد جديد في الثروات النفطية والزراعية والحيوانية، لكن الإعاقة السياسية التي بدأت بقتل أول ديموقراطية ناشئة وعلى أسس متقدمة عن كل الأنظمة العربية، وصحافة حرة تحاكي غيرها في بلدان متقدمة، جاءت لتكون البديل السلبي، والعائق الأساسي لاستثمار خيرات هذا البلد.. فالانقلابات من يسار ليمين، وإيواء أخطر الإرهابيين من كارلوس، لابن لادن، والظواهري، وتعدُّد الولاءات بين الطائفة وحزب العائلة، ثم الحربان شبه الأهليتين في الجنوب ودارفور، وضعت السودان على خط الأزمات بالحصار والتقسيم ، وتشابك المصالح الدولية مع الداخلية بما فيها مطاردة الرئيس البشير من قبل محكمة الجنايات الدولية.. حالة الانفراج التي يقودها الرئيس أوباما، لا تأتي عاطفية، أو من خلفية عرقية لملاطفة السودان، وإنما تأتي من خطط تتأسس على مصالح متنافسة مع الصين وغيرها على ثروات هذا البلد، وتبقى السياسة مصباح «ديوجين» المنطفئ، فلا المجتمع الدولي لديه المبادرات الواقعية التي تعطي للسودان حجمه الطبيعي وقيمته التاريخية والاقتصادية، وتأثيره على كل القارة السمراء، ولا قيادات السودان تخلت عن مصالحها الفئوية والذاتية بحيث تستثمر تلك الإمكانات وتؤسس لدولة ديموقراطية متعددة الأعراق، والأديان والقوميات، وهي المنفذ للخروج من الأزمات التي لاحقت هذا البلد طيلة نصف قرن، وحولته إلى شعب يتناثر على دول الجوار تهدده الأوبئة والمجاعات بالرغم من غناه الهائل وتعدد مصادر ثروته.. العلاقة مع أمريكا ضرورة، وليست ترفاً، لكن إذا تساوت المصالح وتقاربت الأفكار فربما يصبح الإخراج للعديد من القضايا الشائكة سهلاً، ويجب ألا ننظر إلى إدارة السياسة بعقلية المنغلق المتشدد، أو المبايع الخاسر، بل بتساوي المصالح، ليعرف كل طرف حدود قوته وضعفه.. فالأهمية الأولى لكل السودان هي الأمن الوطني، ودارفور تأتي كقضية مفتوحة على كل الأبواب التي تؤدي إلى التمزق الداخلي والتدخل الخارجي، وما لم تعالَج بروح الواقع وبشجاعة المكاشفة على الأخطاء ، والاعتراف بها من أجل إزالتها، والبت في رسم حلول جديدة، فإنها ستظل مركز الصراع مع الدولة العظمى، ودول أخرى ذات علاقة بالأزمة، أو تصعيدها.. ثم يأتي الجنوب الذي لازال يراوح بين الانفصال أو الحكم الذاتي ضمن الدائرة الكبرى للوطن، ولعل تشابه الأزمات بين الإقليمين، وحاجتهما لبعضهما يفترضان تسوية إيجابية بحيث يأتي بناء الثقة كأهم الأطر للمعالجة، ثم تداخل المصالح والأهداف والتاريخ، ولعل عقدة الاستقلال تأتي كحق طبيعي في حالة ظلم طرف لآخر، ولكنها قد تكون كارثة على مستقبل أي منهما، والسودان بلد غني بكل ما يتصل بإحصاء الموارد والثروات، والحاجة إلى الإصلاح منفذ منطقي ليدخل خارطة القوى الاقتصادية الكبرى.