تشهد مدينة القدس حاليا تصعيدا اسرائيليا غير مسبوق، وفي بؤرة الاستهداف يقع المسجد الاقصى الذي لا تخفي جهات يهودية يمينية ومن خلفها المؤسسة الرسمية في اسرائيل نيتها تدميره تمهيدا لاقامة ما يسمى «الهيكل الثالث» على انقاضه. والهيكل عند اليهود يعني البيت المقدس او بيت الاله. وحسب زعمهم فقد بناه الملك سليمان في الفترة ما بين 960 – 953 قبل الميلاد، لكنه هدم على يد القائد البابلي نبوخذ نصر في العام 586 ق. م. ثم اعيد بناؤه في العام 520- 515 ق.م، لكنه هدم مجددا على يد القائد الروماني تيطس سنة 70 ميلادي». وبعد قرابة ألفي عام من ذلك التاريخ، تأتي جماعات يمينية متطرفة لها امتدادات قوية في الولاياتالمتحدة ومن بينها«جمعية أمناء جبل الهيكل»، لتأخذ على عاتقها ومن خلفها المؤسسة الرسمية في اسرائيل، اقامة «الهيكل الثالث» على انقاض المسجد الاقصى المبارك. «الرياض» التقت الدكتور يوسف سعيد النتشة مدير السياحة والآثار في المسجد الاقصى، لتسليط الضوء على قضية الهيكل الذي ارادته اسرائيل «واجهة دينية» لمخططات توسعية ترمي الى السيطرة على مدينة القدس وتهويدها. * فما هي حقيقة الهيكل؟ وهل هو اختراع يهودي أم له أصل ديني وتاريخي؟ - الهيكل موضوع حساس وتنبع حساسيته ليس من كونه فقط موضوعا دينيا او تاريخيا تراثيا، وانما لأن السياسة تتدخل فيه بشكل كبير. واخطر ما في الامر هو استخدام الماضي لتبرير الحاضر أو تبرير مخططات ومشاريع الاحتلال. من هنا فإن من يتصدى لموضوع الهيكل يواجه تعقيدات جمة. فعلى مستوى البحث التاريخي أصلا القصة معقدة جدا، وتزداد تعقيداتها وصعوباتها بما يدور من اجراءات اسرائيلية احتلالية في القدس. كحضارة عربية اسلامية بشكل عام نقدر ونحترم الحضارات والآثارات السابقة. لكن حين تستخدم هذه الآثار -سواء ثبتت او لم تثبت- لتحقيق مآرب سياسية وتسويق وجود على حساب وجود اخر، فان الامر يصبح مرفوضاً جداً. من ناحية معمارية واثرية القدس هدمت وبنيت عدة مرات واستمر السكن فيه عقوداً وقروناً طويلة جدا، وقد مرت بتطورات معمارية معقدة قبل قدوم العرب والمسلمين، لأن العرب كانوا موجودين في المنطقة، ووجودهم في الشام لم يكن وليد الفتوحات الاسلامية وانما سبق ذلك بفترات طويلة. هناك مجموعة من النظريات التي يطلقها الاسرائيليون على مختلف اطيافهم حول ما يوجد لهم من تراث في المدينة المقدسة والحرم القدسي بشكل خاص. لكن حتى الآن لا توجد ادلة واضحة تستطيع ان تميط اللثام عن حقيقة هذه القضية. اما المتتبع لهذه القضية فانه يواجه صعوبة كبيرة ما بين الحقيقة التاريخية او البحث الاثري وبين الفولكور او التاريخ المتمنى او التاريخ الذي يكتب من وجهة نظر معينة. وهناك هوة كبيرة بين ما كتب في التوراة عن الهيكل وبين الواقع الحسي المادي له. وفي ظل هذه التعقيدات لا نركن لمثل هذه النظريات. لا أدلة واضحة * منذ سنوات طويلة واسرائيل تشق الانفاق وتجري الحفريات بحثا عن خيوط تقودها الى هذا الهيكل، فهل عثر على ما يمكن ان يعتبر دليلا على وجوده؟ - في ما عدا جزء من الجدار الغربي للحرم القدسي الشريف والمقصود به حائط البراق الذي هو ملكية اسلامية حسب ما تؤكده محافل دولية مثل عصبة الامم وأعلى هيئة قضائية وحكومية في بريطانيا، وغير المداميك السفلية التي تعود الى الفترة الرومانية في اساساتها، لا يوجد حتى الآن ادلة واضحة على وجود الهيكل. ما يروج له هو ادلة ظرفية او ربط لموجودات مع بعض الروايات التاريخية وهذا لا يرقى الى الحزم والحقيقة او الأسلوب العلمي الصحيح. فرق بين الفلكلور والحقيقة التاريخية هذا موضوع من الصعب القطع فيه فالقدس مدينة معقدة وطبقاتها بنيت فوق طبقات ووجود قطعة من الفخار او النحت تدل على فترة معينة لا يعني بالضرورة ان هناك مباني عظيمة. ما كشفت عنه الحفريات الاسرائيلية حول الحرم هو عبارة عن قناة ماء تعود الى الفترة الحشمونائية وهي أواخر الفترة اليونانية وبداية الفترة الرومانية. هناك فرق بين الخيال والواقع. والقدس بنيت اكثر من مرة وهذا ما يشهد به التاريخ والرحالة وكتب الجغرافية واكبر تدمير حصل في سنة 70 ميلادي على يد الامبراطور الروماني تيطس الذي دمر المدينة كاملة بموجوداتها وبقيت خرابا لعدة عقود قبل اعادة بنائها. وقد استخدمت المواد التي كانت موجودة في الفترة الرومانية اكثر من مرة لاعادة بناء المدينة وهنا تكمن الصعوبة. ومن يبحث عن الماضي لن يجد ادلة لكثرة هدم المدينة واعادة بنائها. ويجب ان تكون النظرة الى الماضي كلية وليس جزئية بحيث لا يجوز التركيز على فترة على حساب اخرى لتحقيق اهداف سياسية. إسرائيليون ينفون وجود الهيكل * هناك اوساط يهودية تكذب حقيقة وجود الهيكل ومن هؤلاء اسرائيل فلنتشتاين الاستاذ في جامعة تل ابيب، حيث اعتبر ان قصة الهيكل خرافية ولا وجود لها. وهناك جماعات يهودية مثل السامريين تقول ان الهيكل بني فوق جبل جرزيم في نابلس؟ - دعني أصوب ما قيل. هم لم يقولوا ان الهيكل خرافة. هناك مجموعة من علماء الآثار الذين لا يؤمنون بتأريخية التوراة. أي انهم يعارضون استخدام التوراة ككتاب تاريخي يركن اليه. هذه المجموعة يتزعمها علماء مشهورون حوربوا في أفكارهم وبضمنهم اسرائيل فلنتشتاين. هؤلاء يرون أن داود وسليمان شخصيات مبتدعة بوصفهم حكاماً، وليس كأنبياء. ويجب ان نميز بين هذه النظرة المادية للحكام وما ذكر في القرآن عنهما كأنبياء. بعد العام 67 * متى بدأ الحديث في الاوساط اليهودية والصهيونية لأول مرة عن الهيكل؟ - الاستخدام الديني كتسويق وبحث في الماضي استخدم مع بداية الصهيونية، وكان يطرح افكاراً مثل «ارض اسرائيل» و«عطاء الله» و«الارض الموعودة» لكن الصهيونية حاولت ان تفصل بين الاجراء الديني والسياسي قدر الامكان. وفي الفترة الاخيرة خاصة بعد العام 67 تكثف الحديث عن الهيكل وعلاقته بالقدس. هناك مجموعات تعمل منذ عقود على هذه الفكرة، ومنهم من بدأ يخيط ثياب الراباي ومنهم من يبحث عن البقرة الحمراء الرمادية، ومنهم من يعيد التخيل من ناحية هندسية. هذا الامر مقلق وخطير، فقد كان لفترة قريبة يقتصر على مجموعات دينية لكنه في السنوات الاخيرة اصبحت هذه المجموعات تحتضنها دوائر رسمية، فنجد اليوم تنسيقا كاملاً بين مؤسسات استيطانية مثل «العاد» وغيرها مع دائرة الآثار أو سلطة حماية الطبيعة وجميع اجهزة الدولة تتعاون مع بعضها في هذا الموضوع، لتسويق هذه الأفكار داخل المجتمع الاسرائيلي وفي اوساط الاحزاب المسيحية- الصهيونية في الولاياتالمتحدة. * هل الاهتمام بالهيكل ينسحب على المجتمع اليهودي بشكل عام ام يقتصر على مجموعات يمينية؟ - يختلف الطيف الاسرائيلي في نظرته لهذا الموضوع.. فالعلمانيون يختلفون عن المتدينين والمتطرفين. بشكل عام الجمهور الديني اليهودي ممنوع عليه دخول منطقة الحرم ويعتقدون ان الهيكل سوف ينزل من السماء قطعة واحدة من الرب بعد قدوم المسيح وبالتالي لا داعي لأن يجهدوا انفسهم في هذا الأمر. لكن لوحظ في الآونة الاخيرة تغير في هذا الموقف حيث سمح بعض الحاخاميين بزيارة المنطقة التي كان محظور دخولها، أي المسجد الاقصى. وهناك بعض المتطرفين اليهود يدخلون ويسعون جاهدين ويعلنون بصراحة انهم يريدون هدم المسجد وإقامة الهيكل مكانه. * في الوقت الراهن ثمة تصعيد من جانب هذه الجماعات لاقتحام المسجد او لوضع الحجر الاساس للهيكل المزعوم في باحات المسجد. هل هذا مؤشر لخطر حقيقي يحدق بالمسجد الاقصى؟ - الموضوع خطير جداً ويبعث على ما هو ابعد من القلق، لا سيما ان اسرائيل كما عودتنا في سياساتها، تنفذ مخططاتها على مراحل. ولا اقصد الخطر المادي على المسجد الاقصى بسبب الأنفاق والحفريات والتي لا يستطيع احد تحديدها على وجه الدقة خاصة ان الحفريات تجري بسرية وتكتم حتى لبعض الاسرائيليين انفسهم، ولا يسمح بتسريب إلا ما يراد تسريبه، ربما لجس ردة الفعل أو لأغراض سياسية. الخطر ليس فقط مادياً على حجارة وموجودات المسجد الاقصى. بل ثمة خطر داهم هو الثقافي وطريقة تسويق واقناع الآخرين بتاريخية الهيكل وأحقية اليهود في الارض وهو ما لا يتنبه له الجمهور ولا حتى النخبة. وحين سئل حاخام كبير متى تنوون بناء الهيكل الثالث أجاب: نريد ان نبني الهيكل في عقول الناس أولا. الهيكل المزعوم، ينادي اليهود باقامته ليس بجانب المسجد الاقصى أو قبة الصخرة، وانما مكانهما