خبر صغير يحمل دلالات كبيرة عن معنى مُغيّب في منطقة تصحو على التوتر وتغفو على القلق من الخصوم والأعداء. في منطقة تتوسل توازن الرعب، وتهمل توازن مشروع حضاري قادر على تقديم نفسه بطريقة تجمع استحقاقات المستقبل، وفعالية المواجهة، وشروط البقاء أصحاء وأقوياء. أما الخبر فهو من إسرائيل الداخل، العدو الجاثم على صدر هذه المنطقة منذ ستين عاما. الذي أعيت العرب مواجهته، لكن يحسب لهم ممانعته، التي يجب أن تظل فعلا ايجابيا لا سلبيا، حتى لا نجد أنفسنا أيضا فقدنا ميزة الممانعة الايجابية إلى ممانعة سلبية لا تقدم أكثر من حالة توقف وجمود. الممانعة الإيجابية تنطلق من رؤية أن هذا الكيان حقق لنفسه تفوقا وتأثيرا ليس فقط بتأييد القوى الكبرى التي اغتصبت له وطنا فحسب، ولكن بقدرته على البقاء ضمن نظام يعطيه بعض المناعة من الداخل من عوامل العطالة والتفكك والتفسخ، ويضمن له دائما التفوق ناهيك عن تقديم نفسه للعالم انه بقعة الديمقراطية الحقيقية وسط عالم مضطرب ومسكون بالتوقف والجمود ناهيك عن التراجع. الخبر هو تقديم رئيس الوزراء الأسبق يهودا اولمرت للمحكمة المركزية بالقدسالمحتلة ليواجه سلسلة من التهم بالاختلاس والتزوير وخيانة الثقة وتسجيل وثائق مزورة والتهرب الضريبي.. اضطر اولمرت لتقديم استقالته في سبتمبر العام الماضي، بعدما أوصت الشرطة بتوجيه التهمة إليه في ملف موريس تالانسكي المتعلق بتحويل أموال بطريقة غير مشروعه من رجل الأعمال اليهودي عندما كان اولمرت رئيسا لبلدية القدس، أما التهمة الثانية فتتعلق بتذاكر طيران قبض اولمرت ثمنها مرات عدة هو وأفراد من عائلته، والتهمة الثالثة مرتبطة بتعيين قريبين منه في مركز الاستثمار وهو هيئة حكومية. لم تكن هذه المحاكمة هي الأولى لشخصية إسرائيلية في أعلى هرم السلطة في إسرائيل، فقد سبق أن قُدم أيضا الرئيس السابق موشيه كتساف بتهمة التحرش الجنسي بموظفات عملن تحت إمرته، كما قدم للمحاكمة الوزيران ابراهام هرشزون وشلومو بنزري اللذان أدينا باختلاس أموال عامة وسُجنا. ومن يتقصى ملفات محاكمات مسؤولين كبار، سيجد أن هناك العديد من القضايا التي عرضت على القضاء في السنوات الأخيرة في إسرائيل تتعلق برؤساء حكومات ووزراء وغيرهم من المسؤولين. القارئ العابر سيرى أن هذه مؤشرات على فساد ينخر في السلطة في إسرائيل، لكنها أيضا بشيء من التأمل هي علامة قوة في مؤسسات الرقابة والقضاء ومعالجة حقيقية لمناحي الفساد في هرم السلطة في إسرائيل. ولأن السؤال المهم حول ماهية الصراع مع إسرائيل وشروطه وأدواته. وإذ نرى إسرائيل عدواً مدججاً بالسلاح المتطور، وكياناً صهيونياً عدوانياً عنصرياً لا يعترف بالديمقراطية إلا بحدود حلمه بالدولة اليهودية، ولمواطنيه اليهود دون سواهم ... إلا أنه أيضا قادر على الحياة ضمن إطار سياسي وقانوني داخلي صارم في اكتشافه لحقيقة عوامل الضعف والإنهاك في بنيته الداخلية. كثيرا ما كان الحديث في الماضي عن حتمية الصراع مع هذا الكيان الغاصب يأخذ منحى التوازن في الردع العسكري، وتغلق مفاهيم أخرى عن اكتشاف أن الصراع له مسارات وأبعاد تؤثر في المواجهة العسكرية ونتائجها، وهي التي حُيدت نتيجة اختلال موازين القوة بين العرب وإسرائيل. هناك مفاهيم أخرى لها علاقة بمعنى الصراع وحتميته، الذي يجب أن يكون صراعاً حضارياً أيضاً، وهو ما يمُكّن الجبهات الداخلية العربية من التفوق على الذات المهزومة والمضطربة والصاخبة بلا فاعلية، ويدعم مسارات المواجهة سلماً أو حرباً على كافة مستوياتها بدءاً من حماية الكيانات الكبرى من عوامل الضعف والوهن الذي قد يستشري في أوصالها، إلى مستوى الانجاز الحضاري الذي يجعل الممانعة الايجابية متحققة، ناهيك عن الكلفة العالية التي تدفعها إسرائيل عند أي مواجهة شاملة قد تحدث مستقبلا. المقارنة بين الدول العربية وبين إسرائيل على مستوى التقدم التقني أو توظيف العلم لخدمة مشروع عسكري صهيوني توسعي استيطاني مقارنات مؤلمة لأن الفجوة كبيرة وشاسعة، لكن أيضا المقارنات في كيفية إدارة الداخل العربي لصالح قوانين المكاشفة والشفافية واستقلال القضاء ومواجهة المتنفذين وحماية المال العام ومكافحة أشكال الفساد.. ليست في صالح العرب أيضا. تقدم إسرائيل نفسها للعالم الغربي حاضنة ونموذجاً ديمقراطياً داخلياً تتمتع بالفصل الشديد بين السلطات الثلاث، وتجعل الاقتراع وسيلة للوصول إلى السلطة دون أن تعاني خللا في معالجة أوضاعها الداخلية، ورغم الخصومات المحتدة بين قوى الداخل الإسرائيلي ورغم وجود أطياف متعددة من القوى المتنافسة إلا أنها تتفق على قاعدة أساسية تتمثل في الخيار الديمقراطي، والقبول بشروطه والفصل بين السلطات الثلاث فصلا تاما، والاحتكام لصندوق اقتراع، وهي لا تتورع عن تقديم رئيس وزراء سابق للمحاكمة لأنه اقتطع قيمة تذاكر لا يحق لها الاستفادة منها أو مول حملة انتخابية عبر أموال ثري يهودي من الخارج دون الإفصاح عنها .... إذن التوازن الحضاري - إذا جاز التعبير - شرط للوصول إلى القدرة في إدارة صراع مع كيان غاشم ومغتصب ومحتل. هذا الشرط يغيب كثيرا في قراءة المثقفين العرب الذي لا يرون التوازن إلا على معبر الردع العسكري، بينما التطور الاقتصادي والعلمي يدعم السياسي وكلاهما يدعم العسكري والعكس صحيح، وكذلك الأمر فيما يتعلق بالبنية الاجتماعية الداخلية وقدرة قوى الداخل على الفاعلية والتأثير الايجابي لصالح كيان مستقر ويعيش على قاعدة التوافق الاجتماعي والسياسي. والتطور الايجابي والمستمر لا يتحقق بلا استقرار نظام قادر على كشف الخلل وملاحقة الفساد، ومراجعة الثغرات باستقلالية مؤسسات لها حضورها ودورها وفاعليتها. التوازن الحضاري قصة منسية وسط صخب الصراخ اليومي عن مظالم هذا الكيان وعدوانيته. وإذ تقاوم الدولة العربية عوامل الإضعاف أو التأثير ذات المصدر الخارجي، لكن هل تقدم علاجا قويا وفاعلا وناجحا لمواجهة عوامل الإنهاك من الداخل؟. أين هي ملامح المشروع النهضوي العربي الذي كان حلما جميلا فذرته الرياح وهما بعيدا. لم يُعرف أن دولة استطاعت أن تجعل المقاومة حية وباقية والممانعة مجدية دون أن تكون بمنأى عن الضعف الداخلي. والضعف الداخلي لا يمكن السيطرة عليه بقمع تناقضات الداخل.. بل تأتي أيضا بمواجهة عوامل الفساد الحقيقية التي تنخر في كيان الدولة والمجتمع دون أن يكون هناك كشف مباشر ومعالجة حقيقية لجذورها التي تمدها بالبقاء وتتغذي منها. عندما نقوى على تقديم مشروع حضاري متوازن، وتستقر العلاقة بين الدولة والمواطن على قاعدة الاعتراف المتبادل والمشروط، وعندما تصبح مكافحة الفساد ظاهرة عامة لها مؤسساتها وقانونها وهيئاتها المستقلة، وعندما يدرك كل مسؤول انه يستمد قوته في منصبه من خدمته لشعبه لا رهن علاقاته بنفوذ الأقوى.. وعندما يصبح جسد القضاء سليما معافى ومستقلا، وعندما تصبح حرية التعبير والرأي والإبداع حقا مشاعا بلا رقابة أو صناعة معممة على مجموع هامشي... عندها فقط تتفجر تلك الروح الوثابة في جيل يدرك أن طاقته تتفجر في حضن وطن يقوى على النهوض .. حينها حتما سيكون لنا مع المستقبل إعلان آخر، ولنا في موقع الصراع مع هذا الكيان الغاصب شأن مختلف.