المشغول بمحاولة اكتشاف العطب في المنطقة العربية، سيرى معادلة صعبة وخطيرة في تقديم الأولويات. ما هي أولويات هذه المنطقة؟ ما نوع الأزمات التي تتراكم على مواطنيها؟ ما هي قضايا الوطن والمواطن الملحة اليوم؟ ما هي سمات الحلول التي تقدم وكيف يمكن قياس التطورات حيال تلك المشكلات أو الأزمات أو التراكمات؟ يخفي الصراع مع العدو الخارجي، أيا كان هذا العدو، كماً كبيراً من أزمات تتراكم في الداخل. لا شيء يوحي بالقلق أكثر من تأمل مستقبل منطقة متوقفة على إبداع حلول جذرية وناجعة وفاعلة لمشكلات الداخل. من يتأمل خريطة الأزمات في العالم العربي، سيكتشف أنها داخلية وتفعل فعلها في الداخل أكثر من كونها خارجية على الرغم من الواقع الإعلامي العربي الذي يتحاشى الداخل وينشغل بعناوين الخارج، بينما أزمات الداخل تهدد لا مستقبل نظم فقط، ولكن مستقبل كيانات كبرى إذا لم تلتف قبل فوات الأوان لصناعة مجتمعات قوية وقادرة على مقاومة التآكل التدريجي. السؤال هل هناك مشروع عربي تنموي استطاع أن يقدم شهادة على الفاعلية وسط هذه الكوارث الإقليمية، ويوحي بثقة انه يعد للمستقبل لا لمواجهة أزمات طارئة. المجتمعات العربية الكبرى تعاني أزمات خطيرة تبدأ من الفقر الذي تتسع مساحته عن ذي قبل، والبطالة التي تجتاح جزءاً كبيراً من مخرجات العمل المتوقف عند حدود ضيقة وهامشية وغير إنتاجية، وتراجع القدرات الاقتصادية للفرد والمجتمع والفساد الإداري..وانحسار مساحات الأمل بالتغيير الايجابي الذي يحمله مشروع محدد الملامح والقسمات. ناهيك عن قضايا خطيرة باتت تهدد سلامة تكوين تلك المجتمعات منها الفرز على الطائفة أو القومية أو المذهبية، والصراع المحتدم بينها الخفي منه والظاهر. ومنها أيضا تراجع قيم لها علاقة بالمنظومة الأخلاقية تنعكس على السلوك الاجتماعي كشيوع قيم الانتهازية وتراجع قيم العمل وضمور معاني الاجتهاد العلمي أو الثقافي، وصعود نماذج انتهازية السلم الاجتماعي، وعلو قيم الكسب السريع أيا كانت الوسائل والطرق. أي أن هناك تراخي منظومة قيمية واسعة لا يمكن فصلها عن أوضاع اقتصادية ومعيشية وثقافية تؤثر في السلوك الاجتماعي بشكل مباشر أو غير مباشر. المشروع الديمقراطي على الطريقة العربية الذي جاء التبشير به بعد سقوط العديد من النماذج باعتباره فرس الرهان للخروج من مأزق التخلف والتراجع ولتعزيز حضور مشروع له قيمة ومعنى في عقل الشارع العربي لم يعد يحظى بالثقة في الشارع العربي. هل كان النظام الغربي واهماً عندما دعي لدمقرطة النظام العربي ليقع في مأزق النموذج العراقي أو الأفغاني؟ بيئات الفقر والجوع والاصطفاف الطائفي لم تقو على الاستفادة من مشروع ديمقراطي لن يحقق الكثير طالما ذهنية الشارع العربي متوقفة عند حدود ضمانة ورقة اقتراع لابن العشيرة أو الطائفة أو الجماعة، ناهيك أن النظام الديمقراطي المتقدم يتطلب مؤسسات متقدمة لانجاز مشروعه وهي خلو في المنطقة العربية. تعاني النظم العربية من غياب مشروعية الانجاز ناهيك عن مشروعية تداول السلطة السلمي الذي لم يعرف بعد طريقه في هذه المنطقة. النظام الأمني الضعيف في العراق لن يقوى على تقديم حلول لواقع المجتمع العراقي طالما افتقد هذا المجتمع الأمن مهما بلغت عائدات النفط. والأحزاب السياسية الهامشية التي تشارك في العلمية السياسية في العديد من الدول العربية تقدم مشروعية للنظام لكنها تضعف قدرتها على مواجهة استحقاقات تعددية ليس لها وجود في الحكم والنظام، وإن وجدت فهي قد تكون قريبة من الوضع اللبناني المأزوم الذي انحاز لديمقراطية الانتخاب لكن هيمنة العشائر السياسية حولته إلى دولة محاصصة أصبحت العقدة في أطول تشكيلة حكومية في العالم وأكثرها تعقيدا. ليس مهماً الآن مناقشة العامل الخارجي قدر ما يهم اكتشاف أن الداخل لو لم يكن مهيأ لدور هذا العامل وتأثيره لما كان له قيمة أو حضور. المشكلة في القابلية الداخلية لكل أنواع التوظيف السياسي التخريبي لعملية ديمقراطية تقدم ورقة الاقتراع بيد وتتجاوز نتائجها لضمان رضا الفرقاء الصعب. لو اجتمع أبرع البشر لؤماً للبحث عن طريقة لتخريب مشهد الديمقراطية الجميل وخلق هذا التصور البالغ التشاؤم في عقل المواطن العربي لما أمكن لهم إخراج ملامح هذا المشهد في المنطقة العربية التي صار المواطن فيها غير معني لا بديمقراطية ولا تعددية حزبية طالما قدمت له هذه التشوهات والمصائب والمآزق اليومية وعليكم متابعة الشارع العربي لاكتشاف هذا العطب التاريخي. إلا أن هذا كله لا يعني أنا نتجاهل هذه الوسيلة الحضارية في إدارة المجتمع والدولة والتي قدمت للبشرية حلولاً جذرية وقدمت الإنسان مواطناً كامل الأهلية وقدمت نماذج جديرة بالتأمل والإقتداء مهما بلغت ظلامات التجربة في المنطقة العربية. الدول القوية قادرة على إخفاء تناقضات الداخل وأزمات الداخل تحت ستار القدرة على التحكم والسيطرة. المؤسسة الأمنية العربية لها حضور كبير في توفير الأمن للمجتمع وللنظام، وهي ضرورة قصوى وسط هذا الجنون والفلتان الذي يمكن يجعل كل البلدان العربية مشروع تفتيت وتقسيم وانهيار وحرائق وعذابات. إلا أنه في منطقة يهددها الداخل المتراجع تحت غياب المشروع الحقيقي والفاعل لوضع مجتمعاتها على طريق التقدم والتنمية وتحقيق الانجاز، ولن يكون التوقف سوى مراكمة الأزمات وتقريرا للعجز الفاضح، ناهيك عن المخاطر الخارجية التي تنتظر حسم صراعاتها في منطقة تنام على النفط والموقع الاستراتيجي وصراعات المصالح والنفوذ، ويترصدها على خاصرتها الرخوة عدو مغتصب، لم يعد يقوى العرب على مقاومته فاكتفوا بممانعته. الدولة القوية ضرورة من أجل تحقيق مشروع الأمن للمجتمع والكيان. وكل أولوية اليوم تقدم على هذا المطلب هي غير مدركة لأبعاد التهديدات الخارجية والداخلية، لكن أيضا الدولة القوية أمنياً بلا مشروع سياسي واقتصادي واجتماعي عنوانه تحقيق التنمية الحقيقية بشروطها الموضوعية، ومقاومة الفساد بكل أشكاله، والاقتراب من تحقيق العدالة الاجتماعية، وإصلاح مؤسسات الدولة والمجتمع، وفتح المجال لقوى المجتمع للمشاركة في دعم هذا المشروع ضمن إطار يلتزم بمفاهيم المشروع وخطوات تنفيذه، وقياس وتعديل تلك المسارات وفق الحاجة والمصلحة والأهداف... فهي أيضا تراكم الأزمات وتقف موقفاً عاجزاً مع الوقت عن مواجهة استحقاقات مجتمع يحتاج بالإضافة للأمن رغيف الخبز وكرامة الحياة والمستقبل المطمئن والشعور بمعنى المواطنة والانتماء والامتثال لشروطهما حقوقا وواجبات. الدولة الرخوة والضعيفة لن تحقق لا شرط الأمن ولا شرط الانجاز حتى لو جمّلت وجهها برداء ديمقراطي تفصله على طريقتها، لأنها لا يمكن أن تخترق حجباً كثيفة خلقت في عقل المواطن العربي الانحياز لمعانٍ ليست ديمقراطية، كما أنها بضعفها لن تكون قادرة على تنفيذ مشروع يتطلب المراقبة والحسم والمساءلة والوقوف أمام العقبات موقفاً حازماً وصريحاً وشديد الوطأة في معالجة الخلل، وهي تنشغل بإرضاء مراكز القوى وبناء التحالفات ومحاولة الخروج من مأزق التوقف السياسي، إلا أن المشكلة أبعد بكثير من حلول مسكنة ومرضية لفرقاء يغيِّرون تحالفاتهم كما يغيِّرون ثيابهم. في النموذج العربي، يمكن للدولة القوية فقط أن تكون قادرة على مواجهة أعباء مشروع إنقاذي داخلي يواجه الفساد، ويقوى على حسم عدة خيارات لصالح مواطنيها عبر مشروع قابل للحياة والتنفيذ والمراقبة والحسم..شريطة أن يحقق لهذه المجتمعات إمكانية قياس ملامح التقدم والتنمية ومواجهة كوارث الانقراض القيمي والأخلاقي والاقتصادي، وهي الأقدر على ذلك من الدولة الرخوة أوالضعيفة.