نشأ الصراع بين الصهيونية والقومية العربية أساساً، وتمت ممارسته في إطار الصراع بين الحداثة والتقليد، وحسمت نتائجه في المعارك الأولى عام 1948، كما تقضي السنن التاريخية لمصلحة الحديث وعلى حساب التقليدي. وفي هذا الصراع لم تكن فلسطين سوى الرمز القادر على حشد الأفئدة، وتغذية الأسطورة في الوعي اليهودي، فأي مكان آخر في العالم لم يكن ليحفز المشروع الصهيوني، الاستيطاني، القومي العلماني، بالقدر نفسه من الكفاءة، لأنه كان سيفتقد مقومات الجاذبية التوراتية لفلسطين. وأدى قيام إسرائيل إلى ما يمكن تسميته «ذبول الإنسانية العربية» أمام الهجمة الصهيونية على فلسطين والصراع الذي دار بعدها وبسببها على كل المستويات، وعلى نحو كان مرهقاً جداً وضاغطاً جداً نفسياً وأخلاقياً على الإنسان العربي في شتى مجتمعاته المحلية، وإن بدرجات مختلفة، بل يمكن القول إن الإنسان العربي دخل العصر الحديث مكتئباً بفعل احباطات المواجهة العسكرية، وما كشفت عنه من فجوة نوع حقيقية بين المدنية الغربية الحديثة التي أسست إسرائيل، والتقليدية التي واجه بها العرب إسرائيل، والتي ضاعف من تأثيرها الحقيقي عمق الشعور العربي بالهزيمة، إلى درجة كانت كابحة للشعور بالقدرة على المواجهة، وهي مواجهة كان يمكن لها أن تكون مفيدة بقدر ما هي ضرورية لو أنها لعبت دور الحافز لعوامل التغيير الداخلية، وتسريع إيقاع مشروع التحديث العربي كآلية لردم فجوة النوع التي قامت عليها إسرائيل، إلا أن ذلك لم يحدث لأن العقل العربي ظل منحازاً في تفسيره للصراع العربي - الإسرائيلي إلى البعد الخارجي الذي اعتبره، من بدايته إلى نهايته، محض مؤامرة من الحضارة الغربية، فعزل العرب عن مسؤوليتهم التاريخية إزاء فجوة النوع مع إسرائيل ما دام الصراع معها في كل محدداته هو جزء من التوازن الاستراتيجي العالمي محكوم في النهاية بغلبة الموجة التاريخية للمشروع الإمبريالي الغربي. ولا شك في أن هذا النموذج التفسيري الغالب على الفكر العربي حتى نهاية السبعينات، على الأقل، شوّه استجابة المجتمعات العربية لهذا التحدي، إذ انحرف معظمها، خصوصاً في الدول المحيطة بإسرائيل، نحو استجابات سياسية «ظاهرية» على صعيد عملية بناء الدولة الوطنية، إذ نزعت إلى أنماط شتى من النظم العسكرية المختلطة بتجليات يسارية في الأغلب، مورست على أرضية ثقافية مدنية هشة، ومستوى متدن من العلم والتكنولوجيا، وكذلك من أنماط التنظيم الاجتماعي والقانوني وبناء المؤسسات أسهم في ترسيخ تقليدية المجتمعات العربية وانغلاقها بدرجات متفاوتة، حتى تلك التي كانت قد رفعت إيديولوجيا القومية العربية بكل جاذبيتها وتقدميتها، حيث تم تأجيل كثير من أهداف التنمية الاقتصادية وكل متطلبات التحديث العلمي والاجتماعي والقانوني، ناهيك عن شروط التحول الديموقراطي بذريعة المواجهة مع إسرائيل وتحت ضغوط اللحظة التاريخية الممتدة والتي جسّدها شعار «لا صوت يعلو على صوت المعركة». وهكذا غابت الاستجابة التاريخية الأعمق للصراع باعتباره تحدياً للمدنية العربية فلم يتم إدراكها، إلا في حالات قليلة وعلى فترات متقطعة، وفي شكل كاف على منوال استجابة مصر الناصرية، والتي احتوت عناصر تاريخية مدنية، وأخرى سياسية شعبوية جعلت المشروع الناصري مفتقداً التجانس الداخلي، إذ بدا تقدمياً متفتحاً على الصعيدين الاجتماعي والثقافي، وانغلاقياً شمولياً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. عكس هذا التناقض نفسه في شكل سافر في مفارقة واضحة بين خطاب سياسي متشدد في مواجهة إسرائيل من ناحية، وانعدام الرغبة الحقيقية في قتالها من ناحية أخرى. ذلك أن عبد الناصر كان مدركاً لفجوة النوع هذه ويسعى إلى ردمها كوسيلة مثلى لحسم هذا الصراع بتنمية الجوانب الاقتصادية - الاجتماعية وصولاً لتحديث مصر، ولكنه لم يستطع المجاهرة بهذه الحقيقة التي يدركها حتى لا يصدم رأياً عاماً شعبوياً في خطابه القومي المعادي لإسرائيل، فاضطر بذلك لممارسة التصعيد السياسي - الإعلامي معها وصولاً إلى المواجهة العسكرية غير المرغوبة ونتائجها المعروفة بين قوة منظمة محترفة تحارب بالعلم العسكري، وأخرى كانت لا تزال تقليدية ترتكز إلى تاريخ إنساني مديد، وروح وطنية وثّابة، وتفاؤل سياسي مفرط، من دون احترافية عسكرية، لم يسعف الزمن مصر لترسيخها آنذاك. وعندما وقعت هزيمة حزيران (يونيو) 1967 كانت بمثابة إعلان لعطب كبير في المشروع القومي العربي في صورته الكلاسيكية «العلمانية» أمام المشروع الصهيوني في صورته اليسارية «العلمانية» أيضاً. وكان من نتيجة ذلك تأكيد الوجود الإسرائيلي كدولة ذات مرجعية قانونية ممثلة في قرار التقسيم لعام 1947، تحوز نحو 55 في المئة من أرض فلسطين التاريخية، ومدعومة كذلك بمرجعية قوة «أمر واقع» نالتها بانتصارها العسكري فأضافت إليها نحو 23 في المئة أخرى من أرض فلسطين لتبلغ نحو 78 في المئة منها، ويبقى الصراع العربي معها يدور فقط حول 22 في المئة. وكرد فعل على الهزيمة، وبدلاً من مراجعة نقدية كانت مطلوبة، اندفعت المجتمعات العربية إلى موجة من الغضب العارم، تم خلالها اعتماد التفسير القريب للهزيمة وهو ضعف همة وشجاعة السلطات العربية آنذاك، ومن ثم فالحل كان بسيطاً ولا يتطلب بالضرورة هذه العمليات الطويلة والمعقدة لتحديث يمس قلب وجوهر المجتمعات العربية أو يعيد تأسيس المشروع القومي على قاعدة التطوير العلمي، والانفتاح السياسي، والتحرر الثقافي، وواقعية الرؤية التاريخية، بل يكفي لتحقيقه مجرد الانقلاب على السلطة القائمة ومرجعيتها الحديثة الرخوة واستبدالها بمرجعية أخرى صلبة تثير الهمة لدى المجتمعات العربية لمواجهة العدو بشجاعة أكبر وحماسة أعلى، وتلك هي المرجعية الإسلامية في ثوبها الراديكالي لا الحضاري. وأدى ذلك الفهم إلى تحويل الانقسام الموروث داخل الكتلة العربية بين التيار الحداثي ونقيضه السلفي منذ القرن التاسع عشر، إلى استقطاب سياسي مزمن بين المرجعيتين، وأخذ يصوغ الجدل بينهما حول كل قضايا الواقع العربي تقريباً في ثنائيات متقابلة تعكس في كل تكراراتها إحدى المرجعيتين على طرف ما من محور الاستقطاب بينما تعكس المرجعية الأخرى على الطرف المقابل بصورة مباشرة أو غير مباشرة، بدءاً من القضايا ذات الطابع الثقافي كالهوية إذ تنامى الصراع بين القومية والإسلامية، مروراً بمثيلتها الحضارية كالنهضة حيث تجدد الاشتباك بين الحداثة والأصالة، وحتى القضايا السياسية كالحرية حيث تصاعد الاشتباك العنيف بين الشورى والديموقراطية، ومن ثم بين الدولة الدينية والأخرى المدنية. ولأن المرجعية السلفية لم تستطع الانتصار تماماً لا في داخل فلسطين تحديداً، ولا في محيطها العربي، على نقيضتها الحديثة والمأزومة، ولم تأتِ، من ثم، بسلطات جديدة إلى الحكم إلا في بعض الدول القليلة جداً، بينما صعدت إلى سطح المعارضة النشطة والقوية في أحيان قليلة من داخل إطار الشرعية، وكثيرة من خارجه، فقد أدت مثل تلك القراءة المتعجلة إلى تشطير المجتمعات العربية إلى كتلتين شبه متعادلتين رمزياً وعملياً، إحداها حديثة وإن ظلت فوقية تضم التيار القومي المأزوم، واليساري المتداعي، والليبرالي النحيل. والأخرى سلفية جسدها التيار الإسلامي في شتى نزعاته المعتدلة والمتطرفة، وصولاً إلى تلك التيارات الإرهابية «العدمية» التي تلتحف بمعطف الإسلام أو تحاول ذلك. وعلى نحو ما لعب الصراع مع إسرائيل دوره في تفجير التناقض داخل الكتلة العربية منذ السبعينات، أخذ هذا التناقض يعكس نفسه على الصراع العربي - الإسرائيلي من خلال صياغته لموقف حدي بين مرجعيتين: - أولاهما حديثة تعمل في إطار الحل الوسط التاريخي، ولكن تبقى عاجزة عن فرض منطقها في الصراع لفشلها في تنمية مجتمعاتها، ورسوخ أزمتها البنيوية على نحو يتزايد معه الاختلال القائم بينها وبين الطرف الآخر على صعيد التوازن الإستيراتيجي ما يعجزها عن خوض حرب مسلحة نظامية أو حتى صراع شامل سياسي وديبلوماسي وإعلامي يتم من خلاله تحييد التفوق العسكري الإسرائيلي، ما يدفع بهذه المرجعية إلى حافة الجمود. - وثانيتهما سلفية استمرت تؤكد الرؤية الجذرية، إذ تعتقد في أن الصراع يدور حول الوجود لا الحدود، وأنها تخوض مباراة صفرية لا تقبل فيها سوى بإزالة الوجود الإسرائيلي مع ما يفترضه ذلك من رفض كل جهد سلامي وكل حل وسط يستند إلى الشرعية القانونية، أو يقود إلى الاعتراف بوجود إسرائيل، أو لا يسمح باسترجاع فلسطين التاريخية. هذه المرجعية لا تحوز المقدرات السياسية، والاقتصادية للأولى، وإن حازت أفئدة قطاع يذكر في الكتلة العربية يمارس كثيراً من تجلياتها الأخلاقية والسلوكية والطقوسية في الملبس ونمط الحياة، ويتجاوب مع رؤاها السياسية ويمدها من ثم بقدرة هائلة على التجنيد حتى أعلى مستوياته «الإستشهادية» حيث تتميز هذه المرجعية بالشجاعة الفردية، والفعالية الشديدة، ولكنها تفتقد منهجية الفعل، والقدرة على الاحتشاد العقلاني المنظم، والأهم شرعية التمثيل والحكم. وهنا تكمن المفارقة الكبرى في المجتمعات العربية المعاصرة وهي أن المرجعية الحاكمة التي تنسب نفسها إلى العصر، وتحوز مقومات الفعل لا ترغب فيه ولا تلجأ إلا للطرق المستأنسة تماماً، والمألوفة لدى الخصم التاريخي الذي تكونت لديه عن العالم العربي، بفعل ممارسات نصف القرن الماضي، ذهنية مستقرة جوهرها العجز. بينما لا تملك المرجعية السلفية وتياراتها الاحتجاجية شديدة الفعالية والرغبة في الفعل مقوماته الشاملة، كما لا تعرف تقاليده المنهجية والحضارية التي يعتد بها عالمنا. وقد مكنت تلك المفارقة إسرائيل من الاستئساد والغطرسة، وجعلت القضية الفلسطينية تبدو غير قابلة للحل سواء لأن الفلسطينيين أنفسهم قد انقسموا بين هاتين المرجعيتين «فتح» و «حماس»، أو لأن القوى المحورية في النظام العربي قد انشطرت هي الأخرى بين معسكري مهادنة وممانعة، أو لأن المجتمعات العربية نفسها قد تعمق انقسامها إلى كتلتين شبه متعادلتين رمزياً بين الحداثة والتقليد، حتى صارت الأمة كلها حبيسة انقسام عميق، أسهمت إسرائيل في تفجيره عسكرياً قبل ستة عقود، ولكنه صار الآن وجودياً وشاملاً، يسهم في تفجير مواقفنا أمام إسرائيل والتاريخ، وذلك بفعل القراءة الثقافية المتعجلة، والاستجابة التاريخية الخاطئة. * كاتب مصري.