في مقال قديم كتبتُ أن جيلنا المتعاطي مع الثقافة في ذلك الوقت ولد بلا آباء مؤسسين لمناهج فكرية جديدة، ويعود السبب إلى أن احتكاكنا بالعالم الخارجي وبنائه الحضاري والفكري، جاء متأخراً، عكس ما حدث لدول أخرى غزاها الغرب واستعمرها، أو أرسلت بعوثاً لجامعات الغرب، وقد استطاع هذا الاحتكاك بناء أسس لثقافة جديدة تبدع في الدراسات والتحليلات وتنقد الموروث التاريخي بأسلوب التحليل العلمي والمنهجي مما أثار حراكاً عاماً استطاع أن يخلق مدارس حديثة في الشعر والنثر والمسرح والقصة، وبقية الفنون الأخرى، وكانت الشام والعراق ومصر سباقة في تقبل هذا المولود الجديد، لكنه أحدث رجّة ثقافية بين أصحاب المدرسة التقليدية ، وأصحاب الإضاءات الحديثة، فكان التعارض يأتي من أن كل مستورَد ينافي ذلك التراث ويهدد بمحوه، وهي طبيعة أي مجتمع يتداخل مع حضارات وثقافات تسبقه وتحتكم إلى منطق جديد وحريات مفتوحة.. المؤثر الثقافي في المملكة بدأ مع نشوء أول مدارس وكليات نظرية ثم ولادة الصحف والمجلات التي قلدت منهج ما حدث بالدول العربية وكانت البدايات بسيطة، لكنها رفعت درجة الثقافة إلى ما فوق الأمية، وهو أمر منطقي بإحداث تغيير في بنية الحياة العامة، وقد كانت الهموم العامة طاغية بمطالب تحديث المدن وتلبية مطالب تلك الشريحة الصغيرة، وعندما اتسع الوعي وانتشرت الثقافة بمفهومها الحديث، بدأ النشاط الأدبي والفكري حيياً وهيّاباً لأن المغامرة، إذا ما بدأت، فقد تكون المعارضة لها بفعلٍ مقابل، ولعل نشر أولى الروايات والقصص القصيرة التي أشاعت هذا النموذج ثم دخول الشعر الحديث إلى قائمة التحدي اقتصر في عموميته على الرجل باعتبار المرأة تخلَّف تعليمها عنه.. الآن نشهد تطوراً مهماً في التأليف، وخاصة في ميدان الرواية والقصة القصيرة، وحتى لو لم نصل إلى الكفاءة اللازمة بإيحاد نموذج متطور يعالج حراكنا الاجتماعي، فإن التجربة تعِد ببدايات جيدة، وإن جاء الكثير من الروايات بالتعاطي مع الجانب المخفي والسلبي داخل حياتنا الخاصة وبمحاولة كسر المحرّم، ونقد الذات وكشف عيوبها، إلا أن الفضاء ظل مقتصراً على الجانب الجنسي باعتباره وسيلة الإثارة، والبحث عن فضاء يكشف ملامح هذه الشخصية المغلفة بالتناقضات والازدواجية الشخصية، والتعامل بأكثر من وجه في سلوكنا العام.. نحن في البدايات، لكن في هذا الفضاء المفتوح وغير المسبوق ستعلن الولادة الأخرى لجيل مؤسّس لنوع من نشاطات أدبية وفكرية وفنية، لأن المعرفة بساط مفتوح كل إنسان ينسج فيه نفذة حتى يكتمل العمل الكبير..