في عالمنا العربي والإسلامي بأكثر خصوصية ليس من السهل أن يكون الحاضر امتداداً لإيجابيات الماضي، بل غالباً ما يكون الحاضر حالة شيخوخة للماضي كما في ما بعد منتصف العصر الأموي وبعده العباسي وبعدهما العثماني، أو أن يكون كل حاضر جديد هو موسم افتعال خصومات مع الماضي تأخذ الناس إلى فراغ التهريج والخوف وصراع الولاءات.. ولعل العصر العربي الراهن في عدد من العواصم يمثل هذه الحضورية الخرافية المتمسكة بعجز الركود.. نحن نختلف كثيراً عن الحالتين.. ولهذا فحاضرنا هو دائماً حالة مصافحة تواصل بناءة مع ماضينا.. شواهد التاريخ تؤكد أن الملك عبدالعزيز - رحمه الله - لم يمارس مسؤولية تقليدية.. لم يكن مثل الوجوه البارزة محلياً في عصره حيث تستبد به زعامة قبيلة أو منطقة، ولكنه في شمول ما فعل أوجد الدولة العربية في معظم امتدادات الجزيرة العربية التي - والتاريخ يشهد بذلك - عاشت إهمالاً تاريخياً يتجاوز الألف عام، حيث ازدهرت الدولة الأموية في دمشق، وازدهرت الدولة العباسية بعد ذلك في بغداد، ثم حدث ما هو أسوأ إقليمياً عند قيام الدولة العثمانية.. تركت الجزيرة العربية الشحيحة الموارد بعيداً عن التوجيه الأمني والإداري والتقدم الثقافي لتعيش عزلة مخيفة، مَنْ تأمّل حدة النزاعات القبلية فيها يجزم أنها لم تبارح وضعها، مفاهيم وممارسات، عما كانت عليه في العصر الجاهلي، ليس من ناحية الدين، ولكن من ناحية الحياة الاجتماعية.. هذه العزلة والإهمال كان لهما مردود سلبي آخر له خطورته الجسيمة أيضاً وهو أن العزلة قد عزلت التطور المعلوماتي وأي جديد حضاري من أن يصل إلى قرى صغيرة نائية حيث كان عدد سكان الرياض لا يزيد على الخمسة آلاف شخص، أو إلى مفاهيم قبائل لو سئلوا ما هي الدولة في شمال بلادهم لأعطوا اسم قبيلة لا دولة.. الشيء نفسه يحدث لو سئلوا عن دولة في الجنوب أو الغرب.. أرجو أن نصل إلى فهم عمق المسؤولية التاريخية وضخامة حجمها أداء ونتائج التي تحملها الملك عبدالعزيز حين يحيط نفسه بمثقفين عرب ويروّض جنوح القبيلة ويرفض التجاوب مع الانغلاق والجهل فيوافق على تحريم الجديد العلمي.. مَنْ كانوا يتجاذبون السلطة في الجزيرة العربية كانوا يمثلون زعامة مدن.. زعامة قبيلة.. عبدالعزيز كان يمثل الرمز الذي تذوب حوله الفوارق الذاتية ويعمل على خلق وحدة اجتماعية شاملة.. هذا لم يكن مألوفاً.. في البداية قلت إننا نختلف كثيراً عن دول الماضي العربية والإسلامية، وكذا دول الحاضر بأننا لم نتجه إطلاقاً نحو الخلف حتى يصل بنا العجز إلى مأساة التوقف أو الصراعات الدموية، نحن ومنذ أسس الملك عبدالعزيز - وهذا انفراد - كنا ومازلنا في كل امتداد من عمر الدولة نتجه نحو الأفضل، طبعاً وفق ما تكون عليه الأوضاع الاقتصادية وكفاءة القدرات، لكن إذا أخذت أبسط المقارنات لأقول بأن غيرنا عرف الجامعة التعليمية قبل أن نعرف المدرسة الابتدائية بمئة عام ولم نكن نعرف معنى كلمة جريدة أو اسفلت أو رخام.. نحن الآن أكثر الدول العربية تقدماً، وليس هذا هو وحدة انفرادية الاختلاف، ولكن أتذكر رصداً نُشر قبل أيام قليلة يوزع كثافة المشروعات التي تبنتها عبقرية الملك عبدالله ومثلها تصاعد أرقام عدد المبتعثين ومثلهما عدد الجامعات يبدو الأمر عند مقارنة الكثافة بمدى إقرارها الزمني كما لو أن كل بضعة أشهر يحمل نصيباً مذهلاً من اندفاعات التطور.. إن جامعة الملك عبدالله التي تفتتح اليوم وسط أجواء حضور دولي - زعامات وأكاديميين وإعلاميين - لا يجوز أن تُسمى مجرد - مشروع - أو هي خطوة تعليم، لأنها في الواقع عمل إعجازي سيتجه بالقدرات العلمية لدينا نحو مسار الزمالة الدولية المرموقة.. لقد قفز الملك عبدالله عبر سنوات ليست بالطويلة بمسار التطور العلمي والاجتماعي وتوسع الانفتاح المعلوماتي وبالتالي تحسين قدرات الوعي الاجتماعي وتنوع كفاءات الممارسة الاقتصادية ما نجزم أنه وضع بين قدرات المجتمع ما يضمن تميزه ليس بحجم ما ينتجه اقتصادياً، ولكن أيضاً بحجم ما سيكون عليه من كفاءة علمية وعالمية..