ثمة فوضى عارمة وغياب شبه مطلق للطبيعة التراكمية، كلاهما يسم نقاشات العرب حول السياسة ويحول بينهم وبين المعالجة المنظمة للشأن الجاري من جهة والتحليل المتعمق لأزمات وإخفاقات السياسة المتكررة في عالمهم من جهة أخرى. مجرد التدبر في الجدال الإعلامي الذي واكب الأحداث الأبرز للأسابيع القليلة الماضية، وهي أبداً لم تخرج عن المسارات الاعتيادية لصيرورة السياسة العربية، يظهر بجلاء هذه الحقيقة المريرة. ولنبدأ بالصراع والمواجهات العسكرية المستمرة بين القوات الحكومية وجماعة الحوثيين في شمال اليمن (محافظة صعدة)، فعوضاً عن التركيز على اسباب الحدث المتمثلة في أزمة الدولة الضعيفة وخطر انهيارها في سياق مجتمعي تفكك بفعل تراكم الاضطهاد والفساد وافتقاد مؤسسات الدولة إن لشرعية الإنجاز أو لشرعية الاختيار الديموقراطي للمواطنين، اتسم الشق الأكبر من الجدال الإعلامي باختزالية فاضحة اكتفت بالتطرق إما إلى الخلفية المذهبية للحوثيين وكأنها السبب الوحيد لتحديهم سلطة الدولة اليمنية أو إلى أدوار بعض القوى الإقليمية، خاصة تلك المزعوم تورطها في دعم "التمرد الحوثي" في تماه غير حصيف مع الخطاب اليمني الرسمي المهمش بهدف التملص من المسؤولية الذاتية للعوامل الداخلية التي يفترض أن تتحمل المسؤولية عن استمرار الصراع. هذا التجاهل ذاته لاسباب الحدث اتسم به كذلك الجدال الإعلامي حول التفجيرات الإرهابية الأخيرة في العراق والتوتر الذي ترتب عنها بين الحكومة العراقية ونظيرتها السورية. والسبب هنا ينقسم في ظني إلى قضايا ثلاث رئيسة: 1) صناعة وتمويل العنف العابر لحدود الدول الوطنية في العالم العربي والذي يعاني منه العراق منذ الغزو الأميركي أراضيه سنة 2003 وإمكانات السيطرة عليه، 2) تداعيات استمرار استبعاد جماعات ذات نفوذ في الداخل العراقي من العملية السياسية الرسمية وتجريمها بسبب ارتباطها السابق بنظام صدام حسين والشروط المحتملة لدمجها وصولاً الى مصالحة وطنية شاملة، 3) نزوع بعض القوى الإقليمية لاستباحة سيادة وأراضي الدول غير المستقرة والضعيفة إن كرافعة لأوراقها التفاوضية مع أطراف دولية مؤثرة أو لتصفية صراعات وحسابات مع قوى إقليمية أخرى بعيداً عن أراضيها. تستحق إشكاليات صناعة العنف وشروط المصالحة الوطنية في دولة ومجتمع يعيدان تأسيس مكوناتهما على أنقاض نظام قديم انهار وقوات احتلال راحلة وتعامل استباحي مع الدول غير المستقرة، تستحق نقاشاً جوهرياً ورصيناً بعد التفجيرات الإرهابية الأخيرة في العراق، بيد أنها جميعاً توارت من واجهة الجدال الإعلامي تاركة المجال لتعليقات مطولة على الاتهامات المتبادلة بين الحكومتين العراقية والسورية انتصرت في الأغلب الأعم لواحدة منهما على الأخرى أو لتلميحات متواترة عن تورط ايراني يعوزها الإسناد المعلوماتي. أما أزمة حكومة ما بعد الانتخابات النيابية اللبنانية، والتي دخلت مؤخراً مرحلة جديدة بتقديم رئيس الوزراء المكلف سعد الحريري تشكيلته الوزارية للرئيس ميشال سليمان، وما لبثت تشغل مساحة واسعة من الجدال الإعلامي داخل لبنان وخارجه لترابطاتها الإقليمية، فتستدعي مأزقاً في الحياة السياسية تؤطره خيوط ناظمة متناقضة: آليات ديموقراطية ترتكز إلى انتخابات دورية وحكومات يفترض أن تتشكل وفقاً لنتائجها ويشترط تمتعها بالأغلبية البرلمانية في مواجهة ضمانات دستورية وأعراف استقرت تلزم بالمحاصصة الطائفية وبحكومات وفاق وطني على قاعدة لا غالب ولا مغلوب، يناط بها حماية العيش المشترك في مجتمع تعددي لم يغب العنف عن ماضيه البعيد والقريب. ثم، مؤسسات دولة ضعيفة ترغب، رغم عجزها، في بسط سيادتها على أراضيها من خلال احتكار حق الاستخدام المشروع للقوة المسلحة أمام قوى داخلية بعضها مسلح، تمثل وتحتمي بطوائفها، جميعها يستقوي على مؤسسات الدولة ويخترقها على كل المستويات مدعوماً بتحالفات إقليمية ودولية لا قبل للدولة الضعيفة بمواجهتها. والحصيلة هي تعطيل شبه مستمر للحياة السياسية وتوظيف للآليات الديموقراطية يجردها من الشرعية والمضمون وخطاب تبريري مصاحب يأتي بمقولات تندر نظائرها خارج لبنان من قبيل أن الأكثرية النيابية لا تلغي الأكثرية العددية، ومواطنية ومواطنين كاملي الغياب. مرة أخرى وباستثناءات محدودة، لا تجد هذه الإشكاليات الحقيقية التي تطرحها الحياة السياسية اللبنانية سبيلها إلى واجهة الجدال الإعلامي الدائر ولا تعالج على نحو تراكمي قد يفضي إلى بحث في الحلول الممكنة، بل يدفع بها بعيداً في مقابل أحاديث لا تنتهي عن مساومات حول الحقائب الوزارية وعن توافقات أو صراعات الأطراف الإقليمية والدولية المؤثرة في الشأن اللبناني. وواقع الأمر أن فوضى نقاشات العرب حول السياسة لا تقتصر بأي حال من الأحوال على الأمثلة الثلاثة السابقة من اليمن والعراق ولبنان، بل تتعداها إلى جل القضايا الداخلية والخارجية المطروحة علينا من فرص وشروط التحول الديموقراطي والتنمية المستدامة في المجتمعات العربية مروراً بدور الدين في الفضاء العام السياسي والاجتماعي، إلى الصراعات الإقليمية وأنماط العلاقة مع الأطراف الدولية على النحو الذي نبدو معه دوماً إما في موضع من يجتر نقاشات قديمة لم يعد بها من النفع الشيء الكثير، أو الخائف من التعرض لجذور قضاياه الكبرى بصدق وتعمق. وبغض النظر عن بعض سبل العلاج الجزئي، من قبيل العمل على تفعيل ساحات إضافية لإدارة النقاش حول السياسة خارج سياق الجدال الإعلامي الذي لا يمكن معه اي طرح معمق وتراكمي، كذلك الذي تقوم به مراكز التحليل السياسي المتخصصة وعددها اليوم إلى تزايد في العالم العربي، يظل المؤسف هو أن المواجهة الناجعة لفوضى النقاش هذه لا يمكنها أن تتحقق سوى بحدوث تغيرات حقيقية في المجتمعات العربية تقارب بينها وبين المجتمعات المفتوحة في العالم الديموقراطي التي تتراجع فيها الخطوط الحمراء المكبلة حركة الفضاء العام السياسي والاجتماعي وتتشكل في سياقها حلقات للوصل بين ممارسي السياسة ومن يدير النقاش حولها تضفي على هذا النقاش زخماً وشرعية، وكلاهما نفتقده إلى حد بعيد. لكن تبقى الديمقراطية هي الحل لعللنا العربية. * أكاديمي مصري.