أحدثت المسلسلات التاريخية المعروضة على شاشات القنوات الفضائية في السنتين الأخيرتين ردود فعل واسعة وضجة اجتماعية وإعلامية وصلت ببعضها إلى القيادات السياسية في الدول العربية واتخذ في حقها قرارات بوقف عرضها أو منعها نهائياً خصوصاً المسلسلات التي تتناول شخصيات تاريخية مشهورة. (الرياض) في هذا التحقيق تناقش مسببات ظهور هذه المشاكل وأبعادها وسبل حلها مع المتخصصين في التاريخ والموروث الشعبي والإعلام. محمد الشرهان (بلعون هو الصنم) راوية الموروث الشعبي والقاص الأستاذ محمد الشرهان يرى أن المسلسلات الشعبية التاريخية تقع في تجاوزات واضحة، وكثيراً ما يتم إيقاف عرض المسلسلات البدوية، لأجل أن كتّاب هذه الأعمال تجاوزوا المحاذير الشرعية أو الاجتماعية، فصوروا بطل القصة بصور لا يرضاها أهله وذووه، وليس ذلك لسبب معين إلا لحرص القائمين على العمل على جذب المشاهدين باختلاق قصص وهمية، أو المبالغة في تصوير سلوكيات هذا البطل أو ذاك بما لا يرضاه أهله ومحبوه، كما حدث في مسلسل "محسن الهزاني" حيث صوره الكاتب بأنه شاعر غزلي مفرط في الغزل، في حين كان الشاعر معتدلاً في غزله تغلب على ديوانه قصائد الزهد والورع، وهذا ما أغفله الكاتب، ولكي ندرك حجم المصداقية في المسلسلات البدوية من عدمها ما علينا سوى متابعة لهجة الممثلين، فهي مقياس دقيق لمعرفة صدقية العمل ودقته، فغالباً ما يؤدي هذه الأدوار ممثلون لا يجيدون لهجة القبيلة أو المجتمع الذي يتناولونه في مسلسلهم، بل يكتفي البعض منهم بإجادته للهجة البدوية على عمومها في حين كان على القائمين على هذه الأعمال مراعاة فوارق اللهجات بين إقليم وآخر وقبيلة وأخرى، وهذا خطأ مُشاهد وعثرة واضحة في أداء هذه الأعمال، بالإضافة إلى أن مثل هذه الأعمال تخطئ الخطأ نفسه حين تتحدث عن شاعر في شمال المملكة، وتصور أحداث المسلسل في فيافي نجد أو العكس. وأضاف الراوية الشرهان أن البعد المكاني والزماني ونقل الأحداث من أرض الواقع مع محاولة محاكاة ظروف وأحداث ذلك الزمان يعد من أساسيات العمل الدرامي، وعلى سبيل المثال يقولون في أغلب المسلسلات "بلعون" وبلعون صنم، ولم يكن أهل الجزيرة يقسمون بغير الله، ومع ذلك يتكرر هذا الخطأ في كثير من المسلسلات لعدم معرفة كاتب العمل الدرامي بالبيئة والمجتمع الذي يتحدث عنه، ولذلك سوف يلاحظ أن ما يشاهد في الدراما ليس كما تقرأه في بطون الكتب. منصور العساف (التاريخ كأسلاك الكهرباء المكشوفة) من جانبه يقول الباحث في الشؤون التاريخية الأستاذ منصور بن محمد العساف ل(الرياض): مشكلة كتَّاب النصوص "السينارست" في المسلسلات التاريخية أنهم يتعاملون مع معطيات التاريخ تعاملهم مع أحداث ومجريات المسلسلات المؤلفة والمبتكرة خيالاً لا نقلاً وثائقياً علمياً، ولذا هم لا يثمنون قيمة المادة العلمية التي يتعاملون معها والأحداث والرموز التاريخية التي يتعرضون لها فتجدهم مقصرين في استشرافهم لردود أفعال المشاهدين بعد عرض أعمالهم الفنية والتي طالما قوبلت باستهجان من معظم الأوساط الأكاديمية والشعبية والمنتديات الثقافية، لا لشيء إلا لأن هذا العمل أو ذاك لم يراع الدقة والأمانة العلمية في عرضه لأحداث مخرجات التاريخ ناهيك عن أن التعامل مع المادة التاريخية كالتعامل مع أسلاك الكهرباء المكشوفة ولا بد للكاتب أن يتعامل من خلالها مع الأقوال الراجحة والروايات الموثوقة. وأضاف العساف قائلاً: أذكر على سبيل المثال في المسلسل الشهير "أبناء الرشيد" أخطاء فظيعة في تشويه أخلاقيات وتصرفات هذا الخليفة ناهيك عن عدم عرض الأسباب الحقيقية أو الأكثر ثقة في ما يسمى في التاريخ الإسلامي ب"نكبة البرامكة"، فالكاتب اعتمد أضعف رواية من أصل خمس روايات مرجحة عند الطبري الذي زعم المؤلف أنه اعتمد عليه في كتابته لنصوص المسلسل والسبب في هذا الاختيار أنه أراد إضفاء نوع من الرومانسية والإثارة وإقحامها داخل أحداث المسلسل، ولم يراع صدقية وأمانة النقل كما تجنى على شخصية الرشيد باختيار الرواية الأضعف، وفي مسلسل "أبي جعفر المنصور" رضي الكاتب بالأخبار الموضوعة كحادثة القصيدة التي لم يستطع المنصور حفظها والمنسوبة للأصمعي، وهذا كله وضع وافتراء وليس له سند ولا حتى رواية تاريخية، كما زعموا أن عيسى الغواص كان نصرانياً في حين كان الرجل مسلماً ينقل الرسائل بين معسكرات المسلمين غوصاً عبر البحر، وفي مسلسل "الحجاج بن يوسف" أخطاء فادحة، إذ فات على القائمين على العمل أن عبدالله بن الزبير يعد من الصحابة الذين لم تظهر لهم لحية وهم بضع من الصحابة حتى قال صحابي مشهور: والله لو أن اللحية تباع وتشرى لاشتريتها لأحدهم، وهذه الأخطاء لا تقف على الأفلام التاريخية الدرامية فقط بل حتى الأفلام الوثائقية، وفي فيلم "عمر المختار" فات على مصطفى العقاد وزملائه أن الجلاّد الذي أشرف على إعدام المختار لم يكن من رجال الفاشيست الإيطاليين بل كان أفريقياً أسود اسمه محمود ويلقب ب "اللونقو" أي طويل العنق، عرف بخيانته وسوء أخلاقه وعمالته للعدو، وهذا ما صرح به سجّان عمر المختار "ليفي" بعد مرور خمسين سنة على استشهاد الشيخ رحمه الله وذلك في حوار أجراه معه الصحفي الإيطالي الشهير "باولو باقانيني" وثمة معلومة يجدر بنا ونحن نقرأ التاريخ أن نقف أمامها وهي أن الغالب يشوّه صورة المغلوب، ولذلك يجب أن نحذر من بعض المراجع لاسيما وأن اختلاف الديانات والمذاهب والأعراق يفعل فعله في النفوس. د. عبدالرحمن الفريح (إثارة مسيئة واستفزاز !) المتخصص في التاريخ والحضارة وأحد المعنيين بنصوص المسلسلات التاريخية وعضو اتحاد المؤرخين العرب بالقاهرة وجمعية التاريخ والآثار بالخليج الدكتور عبدالرحمن الفريح قال ل(الرياض): ليس من هدف المسلسلات التاريخية أو ليس من هدف بعضها تقديم الروايات من خلال منهج البحث التاريخي إذ هي في الغالب تلجأ إلى ما هو لافت لبعض المشاهدين ويستحوذ على اهتمامهم من خلال الإثارة وما هو مشوق في العرض ولو على حساب الدقة العلمية، فمسلسل "هارون الرشيد" الذي عُرض في القنوات الفضائية تم الاعتماد فيه على روايات الطعن والتشكيك وهي تظهر الشخصية وعصره بغير الصورة التي ظهرت من خلال المسلسل، بالإضافة إلى مسلسل (الحجاج بن يوسف) لم يسلم من الجنوح والرغبة في الإثارة اعتماداً على روايات تحط من شأن بعض الأعلام التاريخية، وتبقى مهمة كتاب نصوص المسلسلات في الدقة بالاستقراء والاستنتاج والمقارنة والتعديل والتدليل حيث هم المعنيون بالمادة العلمية التاريخية والذين يتوجه المتابع إليهم بالنقد ويؤاخذون ويلامون. وأضاف الدكتور الفريح قائلاً: أما المعترضون على المسلسلات التاريخية بحجة أنها تتطرق لأسرهم وذويهم أو أعلام أو شعراء من قبائلهم وهم لا يريدون ذلك فإن الاعتراض المجرد ليس مجدياً وهو وإن كان مفيد مؤقتاً لكنه لن يفيد في كل الأزمنة حيث أن المادة التاريخية هي ملك للجميع والمسلسلات شأنها شأن الكتب والمصنفات وإن لم تظهر اليوم تظهر غداً والأجدى في مثل هذه الحالة هو بيان وجهات النظر من قبل المعترضين وبثها بالحجة والمنطق والدليل والبرهان وجميع من أراد الرد من المختصين والمتابعين وليست حكراً على خاصة بمن تتطرق المسلسلات لأسرهم وذويهم وقبائلهم على أن الأمر يبقى في المقام الأول من مهمة معد وكاتب النص بحيث يتجنب الإثارة المسيئة والاستفزاز وينأى بنصه عن الطعن والتشويه وإثارة الفتن. بندر الزندي (مسؤولية القنوات والتدقيق) الإعلامي بندر الزندي له رؤية تجاه القنوات الفضائية فيقول: من المفترض على القنوات الفضائية الاهتمام بعملية التدقيق في النصوص التاريخية والاستدلال بالروايات الصحيحة من بطون الكتب وعدم الاتجاه إلى الروايات الضعيفة عبر تشكيل لجنة خاصة تضم كبار المدققين والمهتمين بشؤون الحضارة والتاريخ حتى لا تقع بعض القنوات التي تعرض هذه المسلسلات في حرج من بعض القبائل التي ينتمي إليها شاعرها المشهور وتبعد عن الاحتجاجات والمرافعات القضائية وتراشق التصاريح الصحفية بين أبناء قبيلتين على سبيل المثال، بالإضافة إلى ان الكثير يجهل بعض السير التاريخية ولا يهتم بقراءة الكتب وبالتالي فإنه يتقبل ويعتبر ما يعرض على شاشة التلفاز هو الحقيقة بعينها عن تلك الشخصية.