مما لا شك فيه أن الماء عصب الحياة، وأساس وجودها، فيها تحيا الكائنات ومن دونه تموت، قال تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي) الآية. ومن هذا المنطلق واعتماداً عليه نشأت وترعرعت الحضارات والحواضر الإنسانية على مر العصور والدهور في مناطق الوفرة المائية مثل العراق ومصر وغيرهما من مناطق الوفرة المائية. كما ان مناطق الوفرة المائية كانت وما زالت وسوف تظل مستهدفة من قبل الأطراف الأخرى؛ بسبب الطمع، أو لمجرد التخريب حتى إننا نستطيع القول إن الصراع على موارد المياه كان السبب في نشوب حروب ونزاعات كثيرة عبر العصور. وفي العصر الحاضر تلوح بوادر نزاعات على مصادر المياه، سوف تفضي إلى حروب وسوف تشكل منطقة الشرق الأوسط بؤرة هذه النزاعات والحروب التي بدأت بالفعل. فهذه إسرائيل تستحوذ على مياه نهر الليطاني، وتتحكم في مياه نهر الأردن، وتسرق مياه الجولان، وتستولي على نصيب الأسد من مياه الضفة الغربية. ولم تكتف بذلك بل هي تسعى إلى التخريب وخلق مشكلات مائية للدول العربية المجاورة لها والبعيدة عنها. فها هي ذي تعبث بمنابع نهر النيل في كل من إثيوبيا، وكينيا، وغيرهما، من خلال دعم إنشاء السدود على الروافد التي تغذي نهر النيل، فضلاً عن دعم حركة الانفصال في جنوب السودان؛ لتحقيق مزيد من التحكم في ذلك الشريان الحيوي، الذي تعيش عليه شعوب مصر والسودان. وإذا أخذنا ما حصل من تجفيف لنهر الفرات الذي يغدي كلاً من سوريا والعراق بالماء؛ بسبب ما أقيم عليه من سدود في تركيا نجد أن الحلقة تضيق. أما إذا أخذنا المملكة مثالاً للحاجة الماسة إلى الماء وما يترتب عليه من أمن مائي، وبالتالي غذائي نجد أن تلك الحاجة الماسة تنبع من عدة أسباب لعل أهمها: * المملكة ذات مساحة كبيرة جداً تصل إلى حوالي (2.2) مليون كلم مربع وهي تشغل أربعة أخماس شبه الجزيرة العربية.. وهذه المساحة المتراية الأطراف أغلبها مناطق صحراوية قاحلة يحتاج إلى برامج وخطط مدروسة لإعادة التوازن البيئي إليها، وهذا يحتاج إلى عامل رئيس هو الماء. * تفاقم مشكلات التغيرات المناخية المتوالية التي يتمثل بعض منها في ارتفاع درجة الحرارة إلى مستويات غير مسبوقة، واستمرار ظاهرة الغبار، وتعمق مشكلة التصحر، وتقلص الكمية ومواسم سقوط الأمطار.. وكل تلك المشكلات تحتاج إلى دراسات وبحوث تسعى إلى إيجاد حلول مبتكرة، عمادها توافر كميات كافية من المياه؛ وذلك من أجل إعادة التوازن إلى البيئات التي تضررت نتيجة تلك المتغيرات المتوالية. * الزيادة المطردة في عدد السكان له دور فاعل في زيادة الطلب على الماء، فعدد سكان المملكة عند توحيدها على يد الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - عام 1351ه لم يكن يتعدى (3) ملايين نسمة. أما اليوم فعدد سكان المملكة يربو على (25) مليوناً منهم (18) مليون سعودي، وما يربو على سبعة ملايين نسمة من غير السعوديين. * أن النهضة العمرانية والاقتصادية والصناعية التي تخوض غمارها المملكة تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه؛ وذلك للوفاء بمتطلبات تلك النهضة المباركة، كما أنه يشكل العمود الفقري لاستمرارها وكينونتها. * الاستخدام الجائر للمياه الجوفية في الزراعة أدى إلى شبه نضوب لذلك المورد في بعض مناطق المملكة، وهذا يجعلنا في موقف حرج أمام ظاهرة شح المياه، وذلك على الرغم من ان المملكة أعادت صياغة برامجها الزراعية، وبدأت الحد من هدر المياه في زراعة القمح، إلا انه لايزال هناك هدر من قبل من لم يلتزم أو يلزم بالقرار. لذلك فإن وضع ضوابط وقوانين تحمي المياه الجوفية من الاستنزاف أصبح مطلباً وطنياً ولعل أبسط وسيلة لذلك وضع عدادات على آبار المياه في المزارع الكبيرة، وتحصيل رسوم على أي كمية تتجاوز الحصة المقننة. كما ان استخدام وسائل الري الحديثة عامل مهم من عوامل الترشيد. * في الآونة الأخيرة ارتفعت أسعار المواد الغذائية بصورة جنونية، وقد قيل إن السبب في ذلك ارتفاع أسعار البترول بصورة جوهرية. لقد حتم ارتفاع أسعار المواد الغذائية غير المبرر على المملكة البحث عن خيار استراتيجي لفك الأزمة، وقد كان ذلك الخيار أن تقوم الشركات الزراعية والمستثمرون في مجال الزراعة بعملية زراعة الأرز والقمح والأعلاف في دول الوفرة المائية مثل: مصر، والسودان، والسنغال، وتركيا، ونيجيريا، واثيوبيا، وبعض دول جنوب شرقي آسيا. ولا شك أن ذلك الخيار مهم جداً ولكن له محاذيره. * المصادر المائية الحالية في المملكة تتمثل في المياه الجوفية التي استنزف كثير، منها وبعضها الآخر مهدد بالاستنزاف؛ بسبب الاستخدام الجائر على الرغم من انه من المعلوم سلفاً انه مصدر غير متجدد من ناحية، وقلة الأمطار التي يمكن أن تعوض جزءاً مما فقد منه من ناحية أخرى. لهذه الأسباب لجأت المملكة إلى تحلية مياه البحر حتى أصبحت المملكة أكبر دولة في العالم في مجال تحلية مياه البحر، على الرغم من التكلفة الباهظة التي تتكبدها في سبيل توطين تلك الصناعة المهمة. هذا إلى جانب ان المملكة في صدد العمل على إعادة تدوير مياه الصرف الصحي وذلك للاستفادة من الماء أكثر من مرة. نعم ان المملكة بحاجة ماسة إلى كميات كبيرة من المياه وذلك للاستخدام الآدمي والصناعي والزاعي من ناحية، وإعادة مخزون المياه الجوفية إلى سابق عهده من ناحية ثانية. وهذا كله يصب في خانة الأمن المائي وبالتالي الغذائي اللذين هما عماد الأمن والاستقرار والنمو في حالة السلم، وأساس تماسك الجبهة الداخلية في الظروف الاستثنائية أبعدها الله عنا. إن ضمان الحد الأدنى للأمن المائي والغذائي أصبح مهمة وهدف جميع الدول، لذلك لجأت الدول الفقيرة بالموارد المائية إلى وسائل وأساليب جديدة، ذات تكلفة منخفضة لتحلية مياه البحر، وذلك مثل اللجوء إلى استخدام الطاقة الشمسية والطاقة النووية، وذلك في سبيل فتح مزيد من النوافذ التكنولوجية من أجل زيادة كمية المياه المحلاة من البحر. من ذلك يتضح ان المصادر المتاحة للمياه في المملكة تحتاج إلى تعزيز ولعل من أهم الوسائل الجديدة العمل على حصد مياه الأمطار وخزنها، ولكن بسبب قلة الأمطار يصبح ذلك الخيار محدود الفعالية والتأثير. إذاً بقي أسلوب جلب المياه من الخارج على الرغم من وجود عدة محاذير تحد من الاعتماد عليه. لكن إذا تم التعامل مع ذلك المشروع على أنه عامل إضافي يمكن الاستغناء عنه فإن محصلته تصبح مفيدة وذلك من خلال: * بواخر البترول التي تنقل البترول من المملكة إلى كثير من دول الوفرة المائية يمكن أن تعود محملة بالمياه العذبة خصوصاً ان تلك البواخر تعود محملة بمياه البحر وذلك لحفظ التوازن. * الوسيلة الأخرى هي جلب المياه من مناطق الوفرة المائية بواسطة الأنابيب وهذه الوسيلة من المعروف انه لا يمكن الركون إليها. مثلها مثل عملية الزراعة في الخارج فكل منها له محاذيره؛ لأن كل من الخيارين محفوف بمخاطر التوقف وعدم الاستمرار، وهذا يفرض المقارنة بينها من حيث الجدوى والتكلفة والاستمرار والمخاطر وغير ذلك من الحيثيات. فإذا أخذنا جلب الماء من مناطق الوفرة المائية بواسطة الأنابيب، نجد أن مثل ذلك المشروع معمول به في مسألة نقل البترول والغاز بواسطة الأنابيب عبر الدول المختلفة، مثل نقل البترول العراقي عبر تركيا إلى ميناء جيهان التركي، ونقل البترول والغاز الروسي عبر عدد من الدول إلى كل من أوروبا وميناء جيهان التركي على البحر الأبيض المتوسط، وغير ذلك من الأمثلة كثير وذلك طبقاًَ لاتفاقيات ومصالح ملزمة، وقليلاً ما نسمع عن تعثر تلك المشاريع أو توقفها لمدد طويلة، أو إيقافها بصورة دائمة. قد تتفاقم بعض المشكلات ولكنها في الغالب يتم حلها بصورة سريعة. لذلك فإن إنشاء شركة سعودية أردنية سورية تركية مشتركة تعمل على جلب المياه من تركيا لكل من سوريا والأردن والمملكة عبر مشروع أنابيب مشتركة يغذي الدول الثلاث وطبقاً لاتفاقيات ملزمة ومربوطة يتبادل مصالح مشتركة يصبح خياراً استراتيجياً قابلاً للتطبيق خصوصاً ان تركيا ليس لها شريك في مياهها، وبالتالي يصبح جلب المياه منها أسهل من جل الماء من وادي النيل أو من شط العرب. نعم يجب أن يؤخذ في الحسبان عدم الاعتماد أو الركون إلى ذلك المصدر بصورة جوهرية؛ لأنه عرضة للتوقف بين فترة وأخرى ولكن يمكن القول إنه لن يتوقف بصورة دائمة خصوصاً ان الدول الأربع المشتركة في الاستثمار فيه كلها مستفيدة كما ان الاتفاقية المبرمة بينها يجب أن تنص انه لا يحق لأي دولة منفردة التصرف من دون موافقة الأطراف الأخرى، وإذا حدث ذلك تتحمل تلك الدولة عقوبات منصوص عليها. أن امدادات ذلك المشروع يجب أن يكون رديفاً للامدادات الأخرى وليست بديلة له ولعل من أهم فوائد ذلك المشروع أنه يمكن أن يصب في خزانات ضخمة تقام خصيصاً لهذا الغرض. والفائض يمكن أن يوجه إلى بعض الآبار التي انخفض منسوب المياه فيها وللاستخدام الزراعي الذي توجد لديه آبار احتياطية تستخدم عند الأزمات. نعم ان المخاطر التي تحيط بجلب المياه من مناطق الوفرة المائية تشبه إلى حد كبير مخاطر الاستثمار الزراعي في تلك المناطق من حيث امكانية التوقف، أو الإيقاف، أو التخريب، أو التأميم، خصوصاً ان هناك دولاً تحرض ضد مثل تلك المشاريع التكاملية بين الدول العربية والإسلامية. ولا شك ان على رأس الدول المحرضة والمخربة لمثل تلك التوجهات إسرائيل، حيث انها تعمل على اقناع الدول المضيفة، أو المحتمل أن تستضيف مثل تلك المشاريع أن ذلك نوع من الاستعمار والاستغلال، على الرغم من أن تلك المشاريع تطور الأرض غير المستغلة وتفتح فرص عمل أمام أعداد من أبناء شعب الدولة المضيفة، فضلاً عن أن الدولة المضيفة مستفيدة من خلال الحصول على نسبة متفق عليها من الأرباح، لكن الحسد أعمى، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى ليس ببعيد أن تقوم الدول المضيفة بفرض ضرائب إضافية، أو مصادرة تلك المشاريع عندما تثبت جدواها ونجاحها لذلك يجب أن نتحرك في هذا الاتجاه ونحن حذرين، وأن نوازن بين جلب الماء من الخارج كخيار وبين الزراعة في الخارج كخيار مساند، وليس بديلاً مع العلم المسبق ان لكل منهما محاذيره التي تمنع الركون إلى أي منها، وهذا لا يمنع الاستمرار فيهما آخذين في الحسبان ان مثل تلك المصادر هي مصادر مساندة وليس أساسية. واضعين في الحسبان أيضاً ان الأمن المائي والغذائي يأتي من خلال الاكتفاء الذاتي وذلك في حده الأدنى. نعم ندعو إلى ذلك ونحن نرى ان المنطقة يشوبها شيء من الترقب والحذر؛ بسبب التوتر الناشئ عن سباق التسلح المقرون بأطماع التمدد والهيمنة الذي تمثله إسرائيل من ناحية، ودول أخرى من ناحية ثانية، الذي يتمثل في التدخل في شؤون الآخرين، وتغرير ذلك بدعم حروب الإرهاب والانشقاق ونشر بذور الفتنة الطائفية، والمذهبية، والعرقية، والاقليمية، والجاهلية، وغيرها مما يتم السعي في سبيل تحقيقه من قبل مجموعة من القوى التي يظهر انها مختلفة في الظاهر، ولكنها متفقة في الجوهر، وفي مقدمة ذلك بنو صهيون. إن كل تلك التوترات تدعونا إلى أن نحقق الأمن المائي وبالتالي الغذائي بالوسائل والأساليب المتاحة والمبتكرة، من خلال الدراسات والبحوث التي لن يعدها أصحاب العقول النيّرة والمخلصة في جامعاتنا ومراكزنا البحثية وفي الجامعات ومراكز البحث العالمية، وقبل ذلك وبعده أسندنا هذه الأمور إلى من صح عزمه وخلصت نيته وصح رأيه. والله المستعان