في مقال الأسبوع الماضي أشرنا إلى ارتباط الأمن الغذائي بالأمن المائي وأن ذلك الارتباط يعتبر وثيقاً وأساسياً، واليوم نضيف إلى ذلك بأن الخزن الاستراتيجي للمواد الغذائية والسلع يعتبر أحد أعمدة الأمن الغذائي خصوصاً في هذا الوقت الذي أصبحت فيه جميع الدول والشعوب معنية بذلك الأسلوب الذي يدخل ضمن استراتيجيات الاستعداد للمستقبل والاحتياط له. إن عملية الخزن الاستراتيجي للمواد الغذائية والسلع أصبحت صناعة لها مقوماتها وأساليبها وهي تدخل ضمن استراتيجيات الأمن الوطني لكثير من الدول، فعلى سبيل المثال نجد أن الخزن الاستراتيجي في بعض الدول مثل أمريكا وروسيا وأوروبا واليابان أصبح يشمل المواد الغذائية الأساسية وكذلك السلع والأجهزة بالإضافة إلى الخزن الاستراتيجي للوقود الذي أصبح شائعاً هذه الأيام والذي يعتبر المخزون الاستراتيجي الأمريكي أشهرها والذي يلعب دوراً أساسياً في تحديد أسعار البترول في السوق العالمية. كما أن الصين قد تنبهت إلى أهمية الخزن الاستراتيجي للبترول ولذلك فهي تعمل الآن على إنشاء أكبر مخزون استراتيجي عرفه العالم. المملكة تنبهت إلى أهمية الخزن الاستراتيجي لمشتقات البترول على الرغم من أنها أكبر دولة منتجة له وذلك عقب حرب الخليج الثانية ولذلك أنشأت مخازن استراتيجية لمشتقات البترول في عدة مناطق من المملكة وذلك لاستخدامه وقت السلم وتحسباً للظروف غير المواتية والطارئة لا قدر الله وذلك على قاعدة الحديث النبوي "اعقلها وتوكل" الحديث. نعم الخزن الاستراتيجي يمكن أن يشمل عددا كبيرا جداً من المتطلبات الحياتية مثل المواد الغذائية والمياه والوقود والمعدات ووسائل الاتصال والانقاذ وكذلك الأسلحة ومثل ذلك الأسلوب موجود في كل من أمريكا وروسيا ودول أوروبا وغيرها ممن عانى من الظروف الاستثنائية أو أنه يحسب حسابها. إن عملية الخزن الاستراتيجي تتم في مواقع تحت الأرض يصعب الوصول إليها حتى إن روسيا على سبيل المثال حولت بعض المناجم بعد إعادة تأهيلها، إلى مخازن استراتيجية وهم يفكرون اليوم بتحويل المخزون الاستراتيجي للمواد الغذائية والسلع إلى صناعة لها أصولها . ومن ناحية أخرى تعمل إدارة المخزون الاستراتيجي على تجديده وعدم تفاديه ولذلك يجعلون لتلك المخازن أبواب لإدخال المواد الجديدة وأبواب لإخراج المخزون القديم وطرحه في السوق قبل انتهاء صلاحيته أو تقديمه كمساعدة لضحايا كوارث في الدول الأخرى، ولذلك يضمنون استمرارية صلاحية تلك المواد وعدم خسارتها، ومن ناحية أخرى يفكر الروس هذه الأيام في إيجاد مخزون استراتيجي من المواد المعدنية والسلع المهمة عن طريق دفنها تحت الثلوج الدائمة في منطقة سيبيريا شمال وشرق روسيا. إن المخزون الاستراتيجي من المواد الغذائية والمياه والسلع له أهمية كبرى لجميع الدول والشعوب في حالة السلم وفي حالة الطوارئ، ذلك أنه يمكن استخدام ذلك المخزون لإعادة التوازن إلى السوق عند المغالاة في الأسعار وكذلك عند شح المعروض منها، وذلك بقصد منع الاحتكار الذي يسبب الغلاء وبما أن منطقة الشرق الأوسط أصبحت منطقة موتورة بسبب وجود الكيان الصهيوني وبسبب المطامع في ثروات تلك المنطقة وموقعها الاستراتيجي وكذلك بسبب نشر ظاهرة الإرهاب وزرع الطائفية والعصبية وسباق التسلح ومحاولة إعادة رسم خريطة المنطقة بما يتوافق مع أهواء من لهم أطماع في تلك المنطقة والذين ظهرت نواياهم من خلال الممارسة والتطبيق، لذلك فإن الخزن الاستراتيجي للمواد الغذائية وتعدد مصادر المياه أصبح ذا أهمية قصوى. نعم لقد شهدت المنطقة حروبا متتالية هدفها القضاء على ثروات الأمة وإيقاف مسيرة تقدمها واستنزاف مقدراتها والقضاء على زهرة شبابها وكهولها وعلمائها، كما هو حادث في العراق وغيره من المواقع. لذلك ومن خلال أخذ العبرة من تلك المواجع يحسن بنا أن نتجه لبناء مخزون استراتيجي من المواد الغذائية والمياه والسلع الأساسية وذلك وفق استراتيجية حديثة تبدأ من حيث انتهى الآخرون على أن يكون ذلك المخزون يكفي لمدة لا تقل عن سنة في حالة سوء الظروف. إن أزمة الغلاء التي تمر بها المنطقة وكذلك توتر المنطقة وتهديد طرق المواصلات والخليج نتيجة لأزمة الملف النووي الإيراني واحتمال ارتفاع وتيرة التضخم وأسعار المواد الغذائية عالمياً واحتمال حدوث ركود في الاقتصاد الأمريكي، ومن ثم العالمي، كل ذلك يحتم علينا أن نقوم بعملية تحول جذري فيما يتعلق بخزن المواد الغذائية وهذه تتمثل في أن تقوم بإنتاج الحد الأدنى من جميع أنواع المواد الغذائية الأساسية محلياً والتي تفي بالحد الأدنى من احتياجات الناس داخل المملكة وبالأسلوب الذي يستهلك أقل قدر ممكن من المياه. كما أن إقامة مخازن استراتيجية للمواد الغذائية في أماكن آمنة تحت الأرض أسوة بخزن مشتقات البترول أصبحت ضرورة لا بد من النظر إليها بعين الاعتبار. ولعل أزمة الدقيق الذي عانت منه بعض مدن ومناطق المملكة وكذلك تأخر نزول الأرز المعان وتأخره في الموانئ من الأمثلة التي يمكن منعها أو حلها بصورة آنية في حالة وجود مخزون استراتيجي من تلك السلع يمكن أن يستخدم لسد الفجوة متى حدثت.. ومن ناحية أخرى يعتبر الماء سلعة استراتيجية أهم من البترول وقت الأزمات لا قدر الله في دولة صحراوية مثل المملكة. وهذا يحتم زيادة الاهتمام بتنويع مصادر هذه المادة للأسباب السالفة الذكر. من هذا المنطلق لا بد من وجود خزانات استراتيجية للمياه في كل مدينة وقرية مربوطة بمصادر تغذية متعددة أحدها مستمر والآخر يستخدم وقت الطوارئ فقط، والأخير لا بد وأن يأتي من آبار يتم تجهيزها وعدم استخدامها إلا وقت الضرورة. نعم الماء بالنسبة لنا يعتبر سلعة استراتيجية ربما تصل أهميتها إلى المرتبة الأولى، وهذا يحتم علينا البحث عن وسائل تحافظ على امدادات المياه وتضمن استمرار تدفقها وجعلها أكثر أمناً واستقراراً من خلال الخزن الاستراتيجي وتنويع مصادر الحصول عليه وزيادة عدد الأنابيب الناقلة لمياه التحلية، بالإضافة إلى إيجاد وسيلة لربط محطات التحلية على الخليج بمحطات التحلية على البحر الأحمر بحيث تصبح الأولى احتياطي للثانية والعكس صحيح مما يمكن من دم انقطاع المياه في حالة تعطل أي منهما. وكذلك يمكن أن أجرى عمليات التجديد والصيانة دون خوف من نقص امدادات المياه عن أي مدينة أو قرية. وعلى العموم فإن توجه حكومة خادم الحرمين الشريفين بالصرف بكل سخاء على تحلية مياه البحر وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي والحد من استنزاف المياه الجوفية وتشجيع الاستثمار في عملية تحلية مياه البحر يعتبر ذا أهمية بالغة في توفير مثل تلك السلعة الاستراتيجية الكبرى والتي بسبب ندرتها وشحها سوف تقوم حروب ونزاعات مستقبلية على مناطق الوفرة المائية خصوصاً في الشرق الأوسط والتي ظهرت أولى معالمها فيما يحدث من مشاكل في أعالي النيل جنوب السودان وقيام تركيا ببناء سدود ضخمة مثل سد أتاترك على مجرى نهر الفرات وقيام إسرائيل بسرقة مياه نهر الليطاني والتحكم بمياه نهر الأردن واستنزاف المياه في بحيرة طبرية وغيرها. إن الدول المتقدمة تخطط للمستقبل وتبني استراتيجياتها على أسوأ الاحتمالات حتى إذا جاءت الظروف بعكس ما يشتهي السفن وجدوا ما أعدوه لذلك اليوم من تحسب واستراتيجيات خير معين ومنقذ بعد الله سبحانه وتعالى. نعم إننا اليوم مطالبون أكثر من أي وقت مضى بإيجاد مخزون استراتيجي للسلع والمواد الغذائية والأجهزة والمياه وأن يعزز ذلك بمرونة مدخلات ومخرجات ذلك المخزون مع الضبط والربط الذي يمنع التلاعب. إن العالم اليوم يواجه مشكلة نقص المعروض من المواد الغذائية وهذه المشكلة سوف تتفاقم خلال الأعوام القادمة بصورة كبيرة وذلك بسب التزايد المستمر في عدد سكان العالم ومحدودية الأراضي الصالحة للزراعة والجفاف والأعتى والأمر اتجاه الدول الكبرى مثل أمريكا وغيرها إلى تصنيع الوقود من الزيوت النباتية والحبوب مما سوف ينعكس على المعروض منها وبالتالي ارتفاع أسعارها. ناهيك عن الاحتكار، كل ذلك يدفع بنا إلى أن نجعل من الاستثمار في تعدد مصادر المياه وأن نفعِّل من عمليات البحث والتطوير التي تمكن من تحلية مياه البحر للأغراض الزراعية من خلال تحقيق تكلفة التحلية بالاضافة إلى دعم وجود تحالفات استراتيجية بين الشركات المستهلكة للمياه مثل الشركات الزراعية وشركات الألبان وإنتاج الدجاج اللاحم والبياض بالإضافة إلى تلك المهتمة بتربية الأغنام والماشية والإبل بما يمكنها من تكوين شركات تحلية عملاقة تمد تلك الشركات بحاجتها من المياه وتبيع الفائض من الماء والكهرباء مما يضمن لها الربحية والاستمرار على الأقل. إن الخزن الاستراتيجي أصبح اليوم احدى أهم وسائل التوازن والصمود في أيام الرخاء وكذلك في الأيام العصيبة أبعدها الله عنا. لذلك فإن الخزن الاستراتيجي للمواد الغذائية والمياه والسلع يعتبر أنموذجا من نماذج الحيطة والحذر والاستعداد واليقظة. إن طرح موضوع الخزن الاستراتيجي للمواد الغذائية وتعدد مصادر المياه على طاولة البحث في كل من المجلس الاقتصادي الأعلى وفي مجلس الشورى ودراسته من قبل القطاعات ذات الصلة سوف يكون أهمية كبرى نحو تبنيه وربما يحتاج الأمر إلى قرار سياسي لأهميته وحيويته. والله المستعان.