تروي قصة من موروثنا الشعبي (وهي موجودة في جل موروثات الشعوب الفلكور) أن ملكاً سأل وزيره: - أيهما أهم: الطبع أم التطبُّع؟ فقال الوزير: - الطبع أهم وأبقى يا سيدي.. رد عليه الملك: - العكس أيها الوزير، فالتربية تغلب الطبيعة، وسوف أريك ذلك غداً. وكان الملك قد أمر مربي قطط ذا خبرة بها، أن يربِّي له أربع قطط ويعودها على حمل أربع شموع مشتعلة، بحيث ترفع كل قطة شمعة منيرة في مجلسه فتكون أعجوبة أمام الحاضرين. حين حضر الوزير في الغد وجد في مجلس الملك أربع قطط مؤدبات، كل قطة ترفع بإحدى يديها شمعة تشتعل بالنار، فكان منظرهن عجباً. التفت الملك على وزيره وقال: - ألم أقل لك إن التطبيع يغلب الطبع؟ ألا ترى هذه القطط تحمل الشموع بكل أدب؟ لقد طبعناها على ذلك حتى نسيت طبعها الأصلي. فقال الوزير: - هل يسمح لي سيدي أن أثبت له عكس ذلك في الغد؟ قال الملك: - أسمح لك؟ بل أتحدَّاك..! قال الوزير: - العفو يا سيدي.. ولكنني سأثبت لك في الغد أن الطبع يغلب التطبع لما لذلك من آثار في سياسة الناس واختيار الرجال.. قال له الملك: - افعل إن استطعت. وفي الغد حضر الوزير وحين رفعت القطط الشموع بكل أدب واحترام أطلق من جعبته أربعة فئران أمام القطط فزاغت عيون القطط ورمت الشموع المشتعلة ناراً فوق السجاد الوثير وطاردت الفئران وطار الحراس يطفئون النيران التي أحدثتها الشموع التي تخلت عنها القطط فوراً استجابة لطبعها في مطاردة الفأر. قال الملك وهو يرى المشهد: - صدقت أيها الوزير.. الطبع يغلب التطبع.. دربنا هذه القطط عدة شهور ونسيت كل ما تدربت عليه في ثانية.. ثم ضحك وهو يقول "شرُّ البليِّة ما يُضحك". *** وللشعراء والحكماء رأيان حول الموضوع، أحدهما يرى أن التربية والتوجيه والتطبيع هي التي تصنع الإنسان بعاداته وأخلاقه. يقول الشاعر: (وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوَّده أبوه) ويقول الأبرش: (والابن ينشأ على ما كان والده إنَّ العروق عليها ينبت الشجر) وهذا البيت يحتمل معنيين. وهناك البيت المشهور: إذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل الدار كُلِّهمُ الرقصُ ويقول المثل الشعبي (لولا المُربِّي ما عرفتُ ربي). لويحان وهناك مثل آخر: (الفرس من خيَّالها، والمرة من رجَّالها) و(من شبّ على شيء شاب عليه) بمعنى أن من عوده أهله وهو صغير على عادات معينة شب عليها فإنه يشيب وهي معه، وما التربية إلا تكوين العادات الحسنة. وعلماء الوراثة والنفس يرون أن للوراثة دوراً يوازي 30٪ من سلوك الإنسان والباقي للتربية على وجه التقريب وبشكل عام، مع وجود الشذوذ، فقد نجد شقيقين تلقيا نفس التربية وطباعهما مختلفة اختلاف الشرق عن الغرب، ولعل ذلك يعود لاختلاف ما ورثه كل شقيق عن الآخر، فالعرق دساس، وقد يكون بعيداً. ولكن أكثر الشعراء والحكماء يرون أن الطبع يغلب التطبع، وهم هنا يقصدون بالتطبع (التكلف والتصنع) وأظن أن كلمة الطبع عندهم تشمل الوراثة والتربية معاً، فهم يحكمون على طبع الإنسان حسب سلوكه وهو بالغ، أي قد تأصلت فيه الوراثة والتربية معاً، فما يستطيع الخروج من ذلك إلا بالتكلف (التطبع).. قال ذو الإصبع العدواني: "كل امرئ راجعٌ يوماً لشيمته وإن تخلَّق أخلاقاً إلى حين" ويقول المتنبي: "أبلغ ما يطلبُ النجاح به الطبعُ، وعند التعمقُّ الزَّللُ فالتعمق هنا بمعنى التكلف. أما المعري فقد فصَّل الأمر فقال: (الطبعُ شيءٌ قديمٌ لا يُحَسُّ به وعادةُ المرء تدعى طبعُهُ الثاني) كأنه يتحدث عن العقل الواعي واللاواعي. ويرى شاعرنا عبدالله اللويحان أن الطبع لا يتغير: "والطبع ما ينزال غيره بتبديل مثل الجدي مرساه ليله نهاره الطِّيب يخلق مع قلوب الرجاجيل ماهوب في بنك التجارة تجارة والحنظلة لو على شاطي النيل زادت مرارتها القديمة مرارة" وبيت المتنبي المشهور: إذا أنت أكرمت الكريم ملكْتَهُ وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا" وورد في قصص العرب ما يدل على أن الطبع في الإنسان والحيوان أقوى من التطبع، وإن كان الإنسان العاقل يجاهد نفسه على إصلاح عيوبه، قالوا: "خرج قومٌ يطلبون الصيد فلم يجدوا إلا الضبع فطردوها فلجأت إلى خبأ أعرابي فأجارها ومنع القوم عنها وأقبل يطعمها اللحم واللبن فلما نام بقربها بقرت بطنه فقالوا فيه: "ومن يصنع المعروف في غير أهله يلاقي الذي لاقى مُجير أَمِ عامر أَذمَّ لها حين استجارت برحله لتأمن ألبان اللقاح الدرائر فأسمنها حتى إذا ما تمكنت فَرَتْهُ بأنياب لها وأظافر ويرى البستي أن تحت المظاهر غرائز مجهولة وأسرار وأن الناس أجناس: "لا تحسب الناس طبعاً واحداً فلهم غرائزُ لست تدريها وأكنانُ" ويرى شاعرنا الشعبي راشد الخلاوي أن الطبع أقوى من التطبع بكثير: "والأطباع تدني جود من جاد جده ولو كان من بيت رفاع مناصبه والأطباع تهوي بالفتى مارد الردى وما الدين والدنيا والأطباع خاربة؟ والأطباع عضو لا يزال مركباً والأطباع للتطبيع لا شك غالبة ومن فيه أخلاق من الله ركّبتْ تزول الرواسي والجبلاَّت ناصبة" والجبلات جمع (جبلة) وهي ما جُبل الإنسان عليه، أي طبعه.