كثيراً ما أتفلسف على أقاربي وأصدقائي حتى يحاول أحدهم إسكاتي بقوله : "خلاص؛ اكتبها كمقال؟" .. وهذا ما حصل مؤخرا مع ابني فيصل (12 عاما) حين أزعجته بمحاضرة اقتصادية عن معنى "الخصوم" و "الأصول" فقال في النهاية : " لماذا لا تكتبها في مقال؟" .. وفي كل مرة أصطدم فيها بجملة من هذا النوع أضرب جبهتي وأقول لنفسي : " فعلا ، لماذا لم أكتب عن هذا الموضوع من قبل" !؟ فالفرق مثلا بين "الخصوم" و"الأصول" أمر أعرفه منذ تسع سنوات حين اطلعت لأول مرة على كتاب بعنوان "الأب الغني والأب الفقير" استفدت منه شخصيا (وأنصح كل أب بشراء نسخته العربية) . وهو من تأليف رجل أعمال يدعى روبرت كيوساكي كان يملك على حد قوله والدين .. الأول، والده الحقيقي (وهو أستاذ جامعي نعته بالأب الفقير) والثاني صديق والده الحميم مايك (وهو رجل أعمال نعته بالوالد الغني) .. وخلال طفولته كان يسمع من كلا الوالدين نصائح متناقضة بخصوص المال والنجاح وتطوير الذات .. فوالده الأول كان (مثلما نفعل نحن مع أطفالنا) يركز على أهمية التعليم والحصول على "شهادة عليا" لنيل وظيفة أفضل وراتب أكبر .. وفي المقابل كان والده الثاني يستخف بهذه الفكرة ويحثه على تنمية الأصول (وهي المشاريع والأفكار التي تدر المال) والتخفيض قدر الإمكان من الخصوم (وهي العادات الاستهلاكية التي تأكل الدخل ورأس المال) ... ومن الواضح أن كيوساكي اختار الطريق الثاني (نصائح والده الغني) بدليل نجاحه في بناء الثروة وترجيح كفة الأصول على الخصوم .. بل يصف أفكار والده الأول (الأستاذ الجامعي) بأنها وصفة مؤكده للفقر والحاجة الدائمة للمال .. فالوظائف المرموقة تستدعي منزلا فاخرا، وسيارة فخمة ، ومدارس خاصة، وخدما ومساعدين، وبطاقات ائتمان، وقروضا ربوية تلتهم كامل الراتب . وحين يواجه "الابن الفقير" بهذه المصاريف يعتقد أن الحل يكمن (كما علمه أبوه) في الانتقال لوظيفة أفضل وراتب أكبر .. ولكن الحقيقة هي أنه يبقى حتى تقاعده مثل الفأر المذعور (الذي يدور في عجلة مفرغة) كون الوظائف والعلاوات الأكبر تُتبَع دائما باستهلاك أعظم واحتياجات أكثر ... !! والحل في نظر كيوساكي يكمن في تخفيض نسبة الخصوم (التي تتمثل في النفقات والمصاريف الاستهلاكية) واستغلال الفائض (مهما كان حجمه) كأصول تستقطب المزيد من الدخل والمال .. ورغم أهمية هذه النصيحة إلا أن قيمة الكتاب في نظري على الأقل تكمن في جانبه التربوي وليس الاقتصادي : فهو لا يعلمنا بناء الثروة بقدر ما يحثنا على توجيه أطفالنا نحو تأسيسها بأنفسهم .. ولا يطالبنا بمنع أبنائنا من الدراسة الأكاديمية بقدر تثقيفهم بأسس الثراء وضرورة الاستقلال بالدخل .. ولا يعيب فكرة الوظيفة والعمل لدى الغير بقدر مايحثنا على امتلاكها والتخلص من عبوديتها ... كما لا يعيب التمتع بمباهج الحياة بقدر ما ينبهنا إلى أن المرسيدس والرولكس وبطاقات الائتمان مجرد (خصوم) تأكل الدخل ورأس المال وليست (أصولا) تولد المال كالعقارات والمضاربات والمشاريع الصغيرة !! ... هذا أيها السادة مايعلمه الأغنياء لأطفالهم ويوجهونهم مبكرا للتعامل معه (سواء بوجود أو عدم وجود شهادة أكاديمية) .. وفي المقابل يُعلم الآباء الفقراء أبناءهم أهمية الجد والاجتهاد (والحصول على شهادة عليا) كي يعملوا في النهاية في شركات الأغنياء !! ... باختصار شديد : لا بأس في أن يصبح ابنك طبيبا ولكن في النهاية يجب أن يمتلك مشفاه الخاص