من المعروف أن الطاقة النووية هي الطاقة التي تنطلق أثناء انشطار أو اندماج الأنوية الذرية. واليوم تشكل الطاقة النووية أكثر من (20٪) من الطاقة المولدة بالعالم. وتعد الطاقة النووية مصدراً حقيقياً للطاقة لا ينضب إلا أن ارتفاع التكاليف النسبية لإنتاجها والمخاوف العامة من الأخطاء المترتبة على استغلالها وصعوبة التخلص الآمن من المخلفات عالية الإشعاع هو ما يثير الشكوك حول مستقبلها. ولكن الزيادة المطردة لسكان العالم وبالتالي زيادة الحاجة إلى مزيد من الطاقة التي تفي بالمتطلبات المترتبة على ذلك من ناحية ومحدودية احتياطياته وبالتالي عمر الوقود الأحفوري (البترول والفحم) دفع بكثير من الدول إلى البحث عن بدائل مناسبة ومنافسة ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر تطوير الطاقة الحيوية واستغلال طاقة الرياح وطاقة المياه وطاقة الحرارة الأرضية وتطوير خلايا الوقود والاستفادة من الطاقة الشمسية واستمرار وتعمق البحث والتطوير لجعل استخدام الطاقة النووية أكثر أماناً وأقل تكلفة. ولعل من أبرز المستجدات في مجال استغلال بدائل مصادر الطاقة هي المزاوجة بين عدة أنواع من مصادر الطاقة في الدولة الواحدة حيث أصبح ذلك من أهم أهداف كثير من الدول المتقدمة وذلك بهدف الاستغناء ولو جزئياً عن البترول وخصوصاً بترول الشرق الأوسط. وهذا لم يعد سراً فقد أعلنت الولاياتالمتحدة على لسان رئيسها السابق جورج بوش الابن أنها سوف تستغني عن بترول الشرق الأوسط بحلول عام (2025)، بينما أبقت الدول الأخرى على برامجها الزمنية سرية حتى الآن، وقد تفاجأ بأنه أقرب إلى ذلك الهدف مما نتوقع. ولعل التوجه والعودة إلى الاستفادة من الطاقة النووية للأغراض السلمية أصبح ظاهرة لدى الدول الكبرى، فمثلاً عدلت كل من ألمانيا والسويد عن خطط الاستغناء عن المحطات النووية وعادت لتصنع برامج جديدة للتوسع في هذا المجال. إن الطاقة النووية تزود دول العالم هذه الأيام بأكثر من (20٪) من حاجة الطاقة الكهربائية، فهي على سبيل المثال تمد دول الاتحاد الأوروبي بأكثر من (35٪) واليابان بأكثر من (30٪) من احتياجاتها من الكهرباء، كما أن كل من المجر وبلغاريا وسلوفاكيا وكوريا الجنوبية وبلجيكا وسويسرا والسويد وسلوفينيا واوكرانيا تعتمد على الطاقة النووية للحصول على أكثر من (35٪) من احتياجاتها من الكهرباء، أما فرنسا فهي من الدول الأقل اعتماداً على البترول وذلك لأن قطاع الطاقة النووية في فرنسا قطاع متقدم ومنظم ومؤسس بطرق علمية متميزة. ولذلك فإن فرنسا تحصل على (80٪) من كامل احتياجاتها من الطاقة باستخدام المفاعلات النووية. وهي تأتي في المرتبة الثانية عالمياً بعد الولاياتالمتحدةالأمريكية في إنتاج الكهرباء بواسطة الطاقة النووية والأولى من حيث دخل الفرد. ولهذا السبب تعد تعرفة الكهرباء في فرنسا الأقل بين دول الاتحاد الأوروبي. ومن هذا المنطلق فإن فرنسا تعد مثلاً يحتذى في هذا الخصوص وهي تستعد للاستثمار في الجيل الثالث من إنتاج الطاقة النووية. أما ألمانيا فإنها تحصل حالياً على أكثر من (26٪) من احتياجاتها من الكهرباء من خلال الطاقة النووية و(57٪) من المفاعلات التي تعمل بالفحم والغاز. كما أنها تحصل على نسبة (10٪) من حاجتها من الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة مثل طاقة المياه وطاقة الرياح وهي تسعى إلى رفع تلك النسبة إلى (30٪) قبل حلول عام (2020م). وفي بريطانيا كشفت الحكومة البريطانية عن خططها للانتقال إلى أنواع من الطاقة الأكثر نظافة وإطالة عمر المحطات النووية القائمة. وقد أوضحت ورقة الطاقة البيضاء أن الحكومة البريطانية تسعى لإجراء تخفيضات واسعة في التلوث الذي تعزى إليه ظاهرة الاحتباس الحراري. وقد كان القرار أن يتم الحصول على (10٪) من حاجة بريطانيا من الطاقة من مصادر الطاقة المتجددة مثل طاقة الرياح وطاقة الأمواج بحلول عام (2010م)، ومضاعفة ذلك في العقود التالية. نعم إن العمل على الاستغناء عن البترول كمصدر أول للطاقة يتم القيام به وتنفيذه على نار هادئة وانجازاته تتراوح بين التعتيم والاستبعاد والتقدم خطوتين والتراجع خطوة واحدة ولكن الحقائق على أرض الواقع تشير إلى أنه يحقق تقدماً مضطرداً. وهنا ربما نستطيع القول إن الدول الصناعية قد تقاسمت الأدوار وذلك لخفض التكلفة مع الاشتراك في المحصلة متى ما تحققت اختراقات رئيسية. من ذلك كله يتضح سبب أن كثيراً من الدول قد وضعت بعين الاعتبار الاستثمار في مجال بدائل الطاقة وخصوصاً الطاقة النووية في المجالات السلمية ولعل من أهم الدوافع لتلك الخطط الاستراتيجية ما يلي: إن البترول وهو المحرك الرئيسي لعجلة الحضارة العالمية أصبح مهدداً بالنضوب مهما بلغت احتياطياته نتيجة زيادة استهلاكه وذلك بسبب الزيادة المطردة في عدد سكان العالم وبالتالي زيادة الفعاليات والنشاطات المترتبة على ذلك. إن الوقود الأحفوري (البترول والفحم) هما السبب الرئيسي للاحتباس الحراري وذلك أنهما يطلقان غازات الدفئة عند احتراقهما مثل ثاني أكسيد الكربون وأكاسيد النيتروجين وثاني أكسيد الكبريت كما أن هذه الغازات تسبب بالاضافة إلى الاحتباس الحراري المطر الحمضي والضباب الدخاني. ناهيك عما يسببانه من تلوث أثناء عمليات الإنتاج والنقل. إن كمية الوقود النووي المطلوب لتوليد كمية كبيرة من الكهرباء أقل بكثير من كمية البترول أو الفحم اللازمة لتوليد نفس الكمية من الكهرباء فعلى سبيل المثال طن واحد من اليورانيوم يقوم بتوليد طاقة كهربائية أكبر مما تولده ملايين الأطنان من البترول أو الفحم. كما أن الطاقة النووية نظيفة ولا تطلق غازات ضارة في الهواء. إن مصدر الوقود النووي (اليورانيوم) متوفر ويسهل الحصول عليه ونقله إذا توافرت الخبرة اللازمة للتعامل معه. كما أن التقدم العلمي جعل استخدام الطاقة النووية أكثر أمناً منذ قبل. على الرغم من أن النفايات النووية مازالت تشكل العقبة الرئيسية أمام الاستفادة من الطاقة النووية إلا أن أساليب إعادة تدويرها واستخدامها في صناعة بعض أنواع الأسلحة التي تستخدم اليورانيوم المنضب وكذلك ابتكار طرق جديدة وآمنة للتخزين جعل الإقبال عليها من جديد أمراً ظاهراً للعيان كما أن عدد الدول التي أصبحت تملك ذلك التوجه بدأ يزداد بصورة ملفتة للنظر. أما بالنسبة للدول المنتجة للنفط فإن البترول يجب أن يعتبر ثروة وطنية أثمن من أن يحرق كمصدر للطاقة فقط ذلك أن تحويله إلى منتجات صناعية يطيل عمره من ناحية وتحقق عوائد بيعها أضعاف أضعاف بيعه كمادة خام. ليس هذا فحسب بل انه بعد تصديره بصورته الخام يعاد إلينا على شكل منتجات استهلاكية مصنعة مثل السيارات والطائرات والأجهزة الكهربائية والأدوات المنزلية ومواد البناء ناهيك عن المنتجات الكيميائية والملابس وغيرها مما لا يمكن حصره وندفع في مقابل ذلك أضعاف أضعاف ما حصلنا عليه ثمناً لبيع البترول كمادة خام. مما تقدم يتبين ان الاستخدام السلمي للطاقة النووية أصبح له أهمية كبيرة جداً. هذا وقد أدركت المملكة ودول الخليج الأخرى هذه الأهمية لذلك وضعت نصب أعينها الاستثمار في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية ولعل أهم المبررات التي تدعو إلى ذلك بالنسبة للمملكة بصورة خاصة ودول الخليج بصورة عامة ما يلي: إن المملكة دولة صحراوية قليلة الموارد المائية وذات مساحة شاسعة وزاد من تفاقم تلك المشكلة الاستخدام الجائر للمياه الجوفية وزيادة عدد السكان واستقدام الملايين من العمالة الأجنبية بالإضافة إلى خوض غمار التنمية بجميع جوانبها، وكل ذلك يحتاج إلى كميات وافرة من المياه مما يتطلب اللجوء إلى تحلية مياه البحر بصورة أكبر وأشمل مما هو قائم حالياً على الرغم من أن المملكة حالياً تُعد الدولة الأولى في العالم من حيث كمية المياه المحلاة من البحر. ومثل ذلك التوجه يحتاج إلى استخدام الطاقة النووية في محطات تحلية مياه البحر. الحراك الصناعي والاقتصادي والاجتماعي يحتاج إلى كميات متزايدة من الكهرباء خصوصاً أن المملكة ذات أجواء حارة تصل فيها الحرارة في الصيف إلى ما فوق الخمسين درجة مئوية وتمتد فترة الحر إلى أكثر من ستة أشهر في السنة لذلك فإن مواجهة ذلك الحراك وتلك الأجواء الملتهبة بالإضافة إلى توسع المدن ونشوء مدن وقرى جديدة يتطلب استخدام الطاقة النووية في توليد الكهرباء وبصورة موسعة بحيث نستطيع تصدير الفائض عبر اتفاقيات الربط الكهربائي مع الدول المجاورة وهذا سوف يكون له عائد مجدٍ. إن الوفرة المالية الحالية التي تتمتع بها المملكة يؤهلها للقيام بتلك المشاريع العملاقة. إن التوسع في مجال التعليم العالي وفي الرعاية الصحية يتطلب استخدام التقنية النووية لإنتاج النظائر المشعة التي تستخدم في الأبحاث والتشخيص والعلاج والتي تقدر كلفة استيرادها حالياً بمئات الملايين من الدولارات. وعليه فإن إنشاء الوكالة السعودية للطاقة الذرية أصبح هدفاً سامياً يجب أن نستعجل قيامه خصوصاً في ضوء توجه الدولة بقيادة خادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني - حفظهم الله - نحو ذلك الهدف - إن عمل دول الخليج بصورة فردية على أن تقيم كل دولة مؤسستها الخاصة في مجال الطاقة الذرية ومن ثم مشاركة تلك المؤسسات في مؤسسة عامة سوف يكون أجدى وأنفع وذلك على غرار اتحاد المواصفات الخليجية والاتحاد الجمركي والبنك المركزي الخليجي المزمع إنشاؤه وذلك حتى لا تعطل دولة مسيرة دولة أخرى في هذا الاتجاه ويبقى التعاون والتكامل موجوداً ومتاحاً. إن إنشاء الوكالة السعودية للطاقة الذرية له مبررات عديدة لعل من أهمها أن وجود مؤسسة ذات شخصية اعتبارية مستقلة يجعلها أقدر على تنفيذ المهمة الموكلة إليها خصوصاً أنها مهمة كبرى تحتاج إلى استقلالية في القرار من ناحية وصلاحيات استثنائية من ناحية أخرى وبالتالي تستطيع أن تقوم بالمهام التي سوف توكل إليها من خلال البدء ومنذ الآن في إعداد المسرح والأرضية المناسبة لهذا التوجه من خلال: استقطاب المتخصصين ذوي العلاقة بالاستخدام السلمي للطاقة النووية وإعدادهم لتلك المهمة وذلك يشمل الخبراء والفنيين وكوادر التشغيل والصيانة ناهيك عن وضع تصور لمختبرات البحث والتطوير من أجل توطين تلك التقنية وإنتاجها محلياً مع الاستفادة من خبرة الآخرين مثل الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وضع اللوائح والخطط والاستراتيجيات التي تحكم عمل وأولويات تلك الوكالة. التعاون مع الجامعات من خلال طلب فتح أقسام متخصصة في مجال الاستخدام السلمي للطاقة النووية تخرج كوادر مؤهلة للعمل في تلك الوكالة وغيرها من القطاعات التي تستخدم الطاقة النووية للأغراض السلمية. دراسة وتحديد المواقع والأماكن الآمنة والمناسبة لإقامة المشاريع التي تستخدم الطاقة النووية في تشغيلها وذلك مثل إنتاج الكهرباء وتحلية مياه البحر وغير ذلك. وعلى أية حال فإن المهام والمسؤوليات الملقاة على عاتق مثل تلك الوكالة كبيرة وكثيرة. نعم إن الوقت مناسب والظروف الدولية ملائمة والقدرة المادية متوفرة والحاجة ماسة والقرار السياسي قد واتخذ لم يبق سوى وضع النقاط على الحروف. سدد الله خُطى قيادتنا الرشيدة وشد عضدها بتكاتف شعبها والتفافه حولها وإلى مزيد من التقدم والانجاز والعطاء بقيادة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - حفظه الله - ومؤازرة ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني - حفظهم الله - والله المستعان.