لا عجب أن يصاب مشاهدنا العربي بالإحباط نتيجة عدم قدرته على ملاحقة الفضائيات الغنائية وكليباتها وهو يشاهدها فلا يحصل منها على ايحاء هادف أو مفاجأة طريفة أو يصل معها الى قيمة بل يخسر بها كماً هائلا من ظنه الحسن وراحة باله لأنها شاشة تغربت في خيالها حينما غشى الغناء الهابط فضائياتنا العربية التي لا تخلو كليباتها المغناة من الايحاء المستفز للغريزة والموصي بالطاعة العمياء للنفس والانغماس في أهوائها دون النظرالى عواقب ذلك. فضاء مشوش ومشهد لا يتحرى الدقة: المشهد الغنائي الفضائي يفتقد غالباً إلى التركيز الذهني والخيال الإبداعي ومن الواضح أنه لا يعير ذاكرة المشاهد قدراً من الاهتمام ولا يحترم فطنته بل يجنح باستمرار إلى غرس الشعور لدى المشاهد بالعجز وقلة الحيلة وانتقاص قدرته على استيعاب الفكرة الغنائية وغايتها. حين تكون مشاهدها تجارتها الرابحة؛ لا أصوات.. لا منتجين: ومع ما في الوطن العربي من أصوات غنائية مميزة في اختيارها وأدائها وثقافتها ومع كثرة الفضائيات المخصصة للطرب إلا أن معظمها سطحي الاهتمام والعرض ولم تزل الفضائيات العربية تنبذ كل صوت مختلف في نهجه الغنائي وبسبب أنه جاد فكرا ومتقدم في نصوصه الغنائية ولبعده عن الهزيل والراقص بالجسد من الألحان وكون رقصها روحانياً أو عقلانياً أكثرمن اللازم - في نظرتها الخاصة - وهو رأي مجحف بحق الطرب الأصيل وإن كان حديث العهد. الأصوات المميزة لا تخرج إلى مستمعها: دعاني إلى مقدمتي تلك شعوري المتسائل عن واقع التغييب المستمر الذي تعيش مأساته كثير من الأصوات العربية المميزة وعدم خروجها إلى المستمع. والسبب الذي أخشى مواجهة وعيي به أن شركات الإنتاج والتوزيع لا تقوم بدورها في تقديم تلك الأصوات عبر قنواتها ولذلك ظلت غير معروفة للعامة. ولا أذكر لأغنية حالياً أن بثت في مستمعيها ما لم تزل تبثه أغان تفردت كرهها المنتجون الحاليون– تصنع موقفها الإيجابي وتدعو روح سامعها أن تعلو فتنقلها نقلة نوعية وتقفز بها إلى واقعها وتلاحق وقتها وهي تدعو إلى حاضرها. ومن الأصوات الحالية المميزة مكادي -مطربة أردنية- التي ظلت تغني الحان الطرب الأصيل فتتوارد العصور من خلال صوت يتخيله التاريخ ويؤدي بحس ويتكلم أداؤه بالمعاني والأخيلة وكل أمنية تاهت وأرهقت تفكيرها وسمعها قرع الطبول وصلصلة آلات موسيقية لم تعتدها الأذن العربية ولا ذائقتها. اتجهت بجيلنا إلى معايشة ما حوله دون تأمل ودربت ذاته على سرعة التوتر والتملك. ونمت الحس العدواني وتراكم شعوره السلبي بنفسه وخيبته وعالمه ودعت ضميره إلى الكذب في شعوره والاستسلام لمزاجه وبعض المبادئ التي يرسخها المشهد الكليبي والتي لم يكن يعرف إليها المشاهد والمستمع العربي طريقا سجنت وجدانه في قفصها ودفعته الى اتخاذ انماط من السلوك السلبي في علاقاته الخاصة والعامة وفي الشوارع ايضا واثرت في صياغة نظرته الى روابطه الاجتماعية ايضا ومع عزلته وقلة مؤيديه علمها الصوت كيف يمكن أن يتقن طربه وهذا هو فن اللعب الاصيل المتعالي على احباطه وسباقه للمستقبل في الحاضر واستنتجت ذلك بمتابعتي وتفحصي لأحوال الجيل في مراحل متعددة ومواضع ومواقف حياتية مختلفة على صعيد الواقع وخبراته وتجاربه. الأغاني المتكررة.. تستعبد الخيال: وأرى شخصياً أن الأغاني التي تتكرر في الفضائيات حالياً استعبدت خيال مشاهدها تدريجيا واستولت على حقه في التأمل والتفكر الذي تربى عليه وجدان المستمع العربي سابقاً. ولا أظن اننا وقعنا مع الاغنية الاصيلة في مكيدة أو انها استباحت سكوننا واستكانة اعماقنا بل وصلنا بها إلى حالات من الالهام. وكمثقفين يتحتم علينا الوقوف الجماعي ضد هذا التيار الغنائي المضطرب الذي ما زال يهمش حس الجيل و يركز على نمط من الألحان التي ليس فيها سوى خفة لا تستريح إليها الروح وهي تستمع إلى إيقاعها الحربي بما فيه من عنف الكشف عن هذا الغناء الهزيل ومدى تأطيره للموسيقى المؤثرة وعازفها وهو يستحدث الفكرة ويتحدث عنها بتعدد ألوانه الموسيقية وتأثره بكلمات شاعره ولحن يده وحس عزفه المتأثر بالصور والمعاني ومن حق أولئك المطربين المميزين علينا جميعا القيام معهم بدور إيجابي والتضامن وإياهم والتحريض على مقاطعة هؤلاء المتشابهين في إيقاعاتهم وأغانيهم المكررة وتعريتها أمام مستمعيها وتوضيح خللها المستهين بذائقتهم. وربما فيما ذكرته سابقاً سبب لذلك الغياب وفي ظل ما يبدو الآن من سخافة مغناة فالمطربون والمطربات الذين تميزوا بعطائهم ربما قد يحظون بمنتج ويتواجدون على ساحة الغناء اذا لم يعودوا لما كانوا عليه وغيروا نمط اغانيهم وصاروا من مطربي التسطيح. الواقع أن للإنترنت فضلاً كبيراً في تعزيز ثقتي بالطرب الأصيل من خلال مواقع عربية تغني وتتغنى بشعر يرقى بذائقة التلقي الحديث مثل موقع زرياب وأنفاس نت وغيرهما ومازلت أطير فرحاً كلما اهتديت إلى مطرب عربي مختلف وأنسخ أغانيه وأوزعها على أصدقائي وهو ما فعلته بالنسبة لبشار زرقان من سوريا ومكادي من الأردن ومارسيل من قبل.. الذين كانوا ومازالوا كلما استمعت لهم يطلقون خيول كتابي ومكادي التي وهي تغني تذكرني بفيروز وفي الخليج اصوات لا تقل تميزا والبحرين انتجت مطربين أخر مميزين منهم من عرفناه ومنهم من لم نعرف به بعد هناك هدى عبدالله التي هدأت بعض الشيء الآن. اقتراح ثقافي مؤسس: وهنا اقترح أن تتبنى المؤسسات الثقافية وعامة المهتمين والمشتغلين بالثقافة والمثقفين أيضا دوراً من حيث الاعلان والتعريف بهذه الاصوات وأن تساهم بدور تمد به يد العون المادي والمعنوي والتشجيع لهم وتكريمهم واشراكهم في برامج وفعاليات المؤسسات الثقافية ومن شأن ذلك أن يعمل على بقاء هؤلاءالمطربين كما هم مميزون ونساعد على استمرارعطائهم. فبأمثال هؤلاء المطربين يمكن المحافظة على الثقافة الغنائية وابراز دور الموسيقى المتميز والرفع من شأن الموسيقي بثروة لحنية يمكنها صناعة الافكار وتأليف الموسيقى وتجديدها والخروج عن المألوف لتدعو بذلك مستمعها إلى تكرار الاستماع إليها والاستراحة الروحية في بستانها المشمس وأعماقها ووجدانها المتحسس طبيعة المستقبل من خلال استلهام مقامات اللحن والتفكر في المعاني وترصد يد عازفها لأثر الكلمات وهي تتسق وإياه وتتناغم ومكوناته ومكنوناته. وفي هذه الحال تتعاون وفكرها الاجتماعي على صياغة الذهنية الجديدة وصنع قيمها وفكرها وتدفعه نحو تفعيل ثقافته لا تسفيهه وتسطيح ذوقه ومحاصرته بموج موسيقى لا يمكنها سوى تسليته مؤقتاً. أغاني فيروز مازالت خالدة في روح الناشئة وبذلك فحسب كانت لها ردود الفعل ذاتها منذ المرة الأولى لغنائها. الأغاني وترسيخ مفهوم الإنسانية والمساواة: