.. فإن أهلك فقد أبقيتُ بعدي قوافي تعجب المتمثلينا لذيذات المقاطع مُحكمات لو انّ الشعر يُلبس لارتدينا جاء هذان البيتان في ديوان المعاني لأبي هلال العسكري كما أورد ذلك د. عبدالله باقازي في كتابه أوصاف الشعر عند العرب «حالات ودلالات» وتمثلت بهما واستمرأتهما وأنا أتأمل في وجع صامت الأثر النفسي الكبير لرحيل شاعر الحب والعاطفة والوطنية علي بن أحمد النعمي. رحل واحدٌ من أجمل الشعراء رقة وأقربهم عاطفة وصدقاً وأكثرهم ملامسة لأحبار الصحافة.. وأخبارها. علي النعمي - هكذا مجرد من كل أوصاف النعت التي لا تستميله كثيراً ولا يتعاطاها حينما ألوك بنكهة غامرة أبياته الشعرية أستطعم فيها رائحة الطين ولون التراب الذي يشكل سحنته الضمدية الهادئة قوافي ومعاني صيغت كالدرر في دفات دواوينه الشعرية - نبتت وشَرّجَت كتنديلة حبة في خَبت الحكامية فأصبحت عشرين سنبلة من الدخن تسر الناظرين. كيف لا يكون شاعراً من سكن بين حدين لهما من الشوق والغرام والعيش والموسيقى كحد السيفين. واديا ضمد - وجازان - من أخصب أودية الجزيرة قاطبة.. استوطنت بضفافها حضارات وملامح إنسانية ونبوغ في العلم والأدب ليس أوله. ابن هتيمل الضمدي ، أو الشاجري أو العاكش أو حجاب أو السنوسي أو العقيلي أو البهكلي.. والقائمة تطول لتشمل علي النعمي كواحد من هؤلاء الأفذاذ وغيرهم كُثر. يا شاعر الحب ومنى الحلم ودولة الحب.. .. أيتها الزهرة بثي الشذا حولي وحول الناس في كل آن بثيه يحيا الحب.. تحيا الرؤى تحيا انطلاقات الهوى والحنان تصحو عيون الشوق من نومها تخضل بالنور لحاظ الحسان بثيه ترتاح النفوس التي أرهقها عيش الأسى والهوان والشاعر الكبير الذي داهمته الأوجاع والمتاعب في سنين عمره الأخيرة لم يزده ذلك إلا رقة وعاطفة ووفاءً لجيله الذي لم يتذكره فيه إلا القليل مما جعله يعيش في أزمة العزلة النفسية التي كثيراً ما تدفعه لدخول بوابة التنويم قدر دخوله عائداً لعتبة داره. لقد كنت أتلقى عتاباته الأبوية الرقيقة ورغبته في زيارته ولو بالمستشفى وقد صادفت بالفعل هذه الزيارات أن تمت بمستشفى الملك فهد بجازان - أو مستشفى أبي عريش ولكن لكم كنا نصل إلى غرفته ثم لم نلبث أن نعود أدراجنا لأنه غادر اليوم. وفي اليوم التالي أتلقى صباحاً مكالمة «بُنيَّ لقد عدنا..!» أين يا شيخنا الكريم؟ بالمستشفى؟! ونضحك سوياً لحالة الأقدار وهكذا فقد أطبقت أوجاع القلب - أصدر ديواناً اسماه «جراح قلب»- والضغط والسكري والشيخوخة على الأديب الكبير ولكم عانى من هذه المتاعب كثيراً - ولكنها لم تؤثر على مستوى إنسانيته أو ذائقته العاطفية في الشعر والحياة. ففي نهاية الأسبوع الأول من شهر رمضان للعام 1428ه حينما انتقلت روح والدتي الحبيبة إلى بارئها فوجئت بمن يتصل بي من الزملاء مفيداً أن الأستاذ النعمي يرغب الخروج من قسم عناية القلب بالمستشفى ليؤدي لنا واجب العزاء في الوالدة مما اضطرني للاستعانة بمدير المستشفى د. يحيى صولان لإقناعه بتقديم الواجب هاتفياً وهو ما تم.. في لفتة وبادرة إنسانية أبداها الراحل العزيز لن ننساها له وهو موقف من مواقف كثيرة في الحياة تؤكد أصالة الرجل وصدق مواقفه. وما أجمل الحديث مع الفقيد وهو يسترجع ذكرياته العطرة في المجال الإعلامي وخاصة في الرياض واليمامة والبلاد وذكرياته مع كثير من رواد العمل الصحفي والثقافي. ولقد ضرب أمير الوفاء عنواناً ساطعاً لمن يستحقون الوفاء ولو بعد مواراتهم الثرى فقد بادر الأمير محمد بن ناصر بن عبدالعزيز أمير منطقة جازان إلى تعزية أهل الفقيد في قريتهم الحرجة بمحافظة ضمد عندما أشعرت سموه بأن الوطن قد فقد واحداً من رموز الشعر والأدب فكان أول الواصلين لمقر العزاء بالرغم من مشاعل سموه الجسيمة. وقد تكرم سموه بالسؤال عن الفقيد في حياته وزيارته وتكريمه في أكثر من محفل وكذلك فعل وكيل الإمارة والوكلاء المساعدين بالزيارة. كما يشكر لنادي جازان الأدبي على مستوى إداراته المتعاقبة تكريمه لرواد الشعر والأدب بالمنطقة وفي مقدمتهم الرمز والشاعر الكبير الأستاذ علي بن أحمد النعمي وأخرها في الملتقى الشعري لشهر صفر من هذا العام 1430ه برعاية كريمة من سمو أمير منطقة جازان. وبعد.. طبت حياً وميتاً أبا أحمد وطاب ممشاك في جنات عدن إن شاء الله وعوض وطنك وأهلك بغيابك خيراً صاحب الملاحم الشعرية التي تشبه ملاحم النص الشعري المسرحي لدى شوقي وكبار شعراء العربية وجمعنا بك في الخالدين.