شكوت إلى أمير حائل (650 كيلومتراً شمال غربي العاصمة السعودية الرياض) سعود بن عبدالمحسن ما فعله بي ابن منطقته حاتم الطائي.. انزعج الأمير وتساءل: ماذا فعل؟ قلت: زاد وزني خلال أيام عدة نحو خمسة كيلوغرامات.. جراء كرم جنوني لا فكاك منه توارثه أحفاده هنا ويمارسونه علينا. هنا يا سمو الأمير، وأشرت إلى بطني، دُفنت عشرات الخراف التي نحرها أهل حائل حفاوة واستقبالا لنا: خروف على الغداء ومثله مسكين على العشاء ترقد جميعها فوق صوان مليئة بالأرز المطرز بالصنوبر والزبيب والمكسرات وغارقة في بحر من الدسم اللذيذ.. كلها في ذمة بطوننا. ابتسم الأمير ابتسامة ذات مغزى وأشار إليّ بأن أتقدم إلى مائدة العشاء الأميرية التي أقامها سموه على شرف قافلة الإعلام الخليجي التاسعة التي قادها الإعلامي النشيط محمد الرشيدي ونظمتها هيئة السياحة والآثار السعودية أخيرا، لتدشين انطلاقة عدد من المواقع الأثرية والتاريخية بالمملكة، نظرت إلى المائدة وفهمت مغزى ابتسامة الأمير: أكثر من 20 خروفا بأرزها ومكسراتها ودسمها كانت في انتظارنا! شمرت عن ساعدي وقبضت على رقبة خروف وأنا أقول: يا ويح حائل! من قال إن حاتم الطائي قد مات! أشهد أنكم أحفاده! ابتسم أحد أعيان حائل وهو يقول: ما رأيك في زيارة خاصة لمنزل حاتم الطائي!. نعم! حاتم الطائي ابن هذه الأرض ولكن أين كان يسكن وكيف يتم تحديد الأماكن؟ تساءلت وجاءت الإجابات لتشكل ملامح شخصية أشهر رجل اشتهر في التراث العربي بالكرم والجود الرجل الذي صارت حكاياته في الكرم، وموقده الذي لا ينطفئ في انتظار الضيوف مضربا للمثل، وملهما للشعراء وهو منهم: وإني لعبد الضيف ما دام ثاويا وما فيّ إلا تلك من شيمة العبد والحقيقة أنني ترددت في الكتابة عن شخصية حاتم الطائي كإنسان عربي حقيقي، نعرف متى ولد وأين عاش ومارس كرمه وأين ومتى مات، لا كأسطورة يتناقل الناس أخبارها. ذلك ان البعض من القراء الاعزاء وزملاء المهنة انتقدوني عندما رصدت في حلقة سابقة الاماكن التي عاش ومات فيها فارس العرب عنترة بن شداد، محتجين بأني نزلت بشخصية عنترة من علياء الخيال ورومانسية الاسطورة اللذين يسبح فيهما في الوجدان العربي، والشعبي خصوصا، الى فجاجة الواقع ورتابته، ولربما كان لهذا الرأي وجاهته كتفسير لحرص الخيال العربي على اساطيره، لكنه لا يصلح تبريرا ابدا لتجاهل هذه الشخصيات وعدم تكريمها والتعريف بها، والاهم هو تأصيل هذه الشخصيات العربية في قلب تاريخنا وقيمنا الحديثة، وربط اولادنا الذين سرقتهم منا العولمة والانترنت، برموزهم التاريخية كمحاولة لصناعة هوية عربية حديثة، فلكل حضارة ابطالها الشعبيون الذين حوّرت قصصهم لتصبح ذات ابعاد وظلال اسطورية، مثل كالهون الايرلندي وارسطو اليوناني وديفي كروكيت الامريكي، وكحاتم الطائي وعنترة بن شداد وغيرهما، الذين انتقلت قصصهم عبر الاجيال لتصبح قصصا محبوبة خاصة في العالم العربي وافريقيا والهند واندونيسيا، وتتركز تلك القصص على الفروسية والكرم الاسطوري. ذلك الكرم الذي عايشته عيانا بيانا هنا في حائل وكاد ان يقتلني، بل وكان دافعي في البحث عن دنيا حاتم الطائي التي كانت مسرحا لحياته ومماته، انه الرجل الذي وقفت ابنته الجميلة الشاعرة سُفانة وهي احدى سبايا قبيلة طيء امام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا محمد، ان رأيت ان تخلي سبيلي ولا تشمت بي احياء العرب، فإني ابنة سيد قومي! وان ابي كان يفك العاني ويشبع الجائع، ويكسو العاري، ويفشي السلام، ولا يرد طالبا حاجة قط، انا ابنة حاتم الطائي، فقال النبي الكريم: «يا جارية، هذه صفات المؤمنين، خلوا عنها فان اباها كان يحب مكارم الاخلاق». احتفاء نبوي ولعل هذا الاحتفاء النبوي بحاتم الطائي الذي توفي عام 15 قبل الهجرة، وفي رواية عام 46 قبل الهجرة 605 ميلادية، وقيل في السنة الثامنة من مولد النبي صلى الله عليه وسلم، هو الذي حدا ببعض المسلمين قديما الى توجيه رأس جثمان وقبر حاتم الطائي باتجاه القبلة طمعا في نجاته، على الرغم من انه مات قبل الاسلام. ويتردد تاريخيا ان ابنه عدي هو الذي حول رأس ابيه – يقال ان حاتماً مات على المسيحية – نحو القبلة كما يراه الزائر. بدأنا رحلة البحث عن حاتم الطائي من قبره الذي يقع في قرية «توارن القديمة» التي تبعد نحو 35 كيلومتراً شمال مدينة حائل. نسير وسط جبال شديدة الرهبة.. سوداء تبدو ككائنات خرافية نحتتها الطبيعة والزمن. الطريق الى قبر حاتم غير معبد مما اضطرنا الى الترجل من الباص الذي كاد ان ينقلب من وعورة الطريق. حملتنا سيارة «وانيت» عبر الطريق الذي يفتقر لأي خدمات او عمران. بعد نحو نصف الساعة بدت امامنا مقبرة بدائية لم تمتد اليها الاصلاح وتعاني من التصدعات. وظهر قبر حاتم الطائي طويلا جدا حيث يصل طوله نحو خمسة امتار فهل كان حاتم الطائي طويلا الى هذا الحد؟! ويرد عبدالرحمن الرشيدي نائب مدير مكتب الاثار والمتاحف بمنطقة حائل: كان حاتم الطائي انسانا عاديا، طوله كبقية البشر لكن يبدو ان اهل المنطقة استشكل عليهم تحديد مكان الجثمان بالضبط فلجؤوا الى اطالة شاهد القبر تحسبا لوجوده في هذه المساحة، والدليل على هذا ان بقية المقابر ذات اطوال بشرية معتادة. شواهد تاريخية عبدالرحمن الرشيدي يؤكد بقوة ان هذه المقبرة لحاتم الطائي، ويلفت إلى أن كل الشواهد التاريخية تؤكد وجوده في هذه المنطقة ويشير الرشيدي إلى قبر آخر قائلاً: وهذا قبر أم حاتم الطائي وابنه عدي. إذا كان لابد من تكريم حقيقي فلابد أن يكون لأم حاتم السيدة عتبة بنت عفيف بن عمرو بن أخزم فقد كانت ذات يسار وسخاء وكرم أدى إلى أن يحجر إخوتها عليها وأن يمنعوها حسبما ذكرت المصادر التاريخية من التصرف في أموالها، وورث ابنها حاتم عنها الجود والكرم وذاع صيته، وبقيت الام في الظل التاريخي لا يعرفها إلا المتخصصون. عدي بن حاتم أما الابن عدى حاتم الطائي فلم يكن أقل من ابيه نبلا وكرماً ووعيا وله سيرة مطولة ومحترمة في الاسلام وخصوصا عند إخواننا الشيعة فعدي الذي ولد قرابة عام 580 ميلادية وهو أصغر من أخته سفانة التي ولدت قرابة عام 568م نشأ في قصر والده في مدينة توارن التي سنزورها بعد قليل، والتي كانت عاصمة أجا وسلمي- جبلان سميا باسم عاشقين وهما مدينة حائل الآن –وتعلم القراءة والكتابة واعتنق المسيحية كأبيه وعندما كان في الثانية والعشرين من عمره أي في عام 602م، توفي حاتم الطايي، فتولى عدي ملك قبيلة طيء خلفاً لوالده وعندما جاء الاسلام تمسك عدي بمسيحيته لكنه أشهر إسلامه بعد حوار مع النبي صلى الله عليه وسلم ودخلت طيء في دين الله ولم ترتد بعد صعود النبي الكريم إلى جوار ربه كما فعلت قبائل عربية أخرى بل قاد عدي قبيلته إلى قتال المرتدين في اليمامة وأسد، وفي عهدعمر شارك الطائيون في الفتوحات الاسلامية في القادسية واليرموك بقيادة ملكهم عدى، ووقف عدي إلى جانب علي بن أبي طالب في كل الحروب التي خاضها حتى أنه فقد ابنه محمد في موقعة الجمل، وكذلك إحدى عينيه دفاعا عن علي بن أبي طالب، وأصيب إصابة بالغة في معركة صفين، وشارك كذلك مع علي في معاركه ضد الخوارج في النهروان، وبعد استشهاد الإمام علي، جدد عدي عهد الولاء والتحالف مع الحسن بن علي ولازمه في كل مواجهاته حتى زمن الصلح، وتوفي عدي سنة 688م والأرجح – حسبما ذكرت كتب السير والاعلام، انه مدفون في المقبرة التي تضم جثمان والده حاتم والتي أقف الآن أمامها وأرفع يدي وأنا أقرأ لعدي الفاتحة. ويدعو اخواننا الشيعة الذين يزورون القبر للاب حاتم والابن عدي معا، فثمة رواية عن الامام الرضا عليه السلام ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم: «رفع عن أبيك العذاب بسخاوة نفسه». قصر حاتم في قرية توارن التي تقع وسط واد وتحيط بها جبال اجا، عاش ومات حاتم الطائي كما تتناقل الاجيال، ووفقا لما ذكر في قصة الابن عدي بن حاتم الذي عاش ومات هنا أيضا ودفن الى جوار ابيه. تضم القرية قصورا بنيت من الحجر والطين، ولكن لم يبق منها سوى اطلال. نسير حتى نبلغ قلعة حاتم الطائي التي تتربع على اعلى قمم جبال تلك المنطقة وهي مشيدة بالصخور الحمراء والسوداء، وتبدو لك مظلات عالية وحصون سامقة كانت تشير الى الضيف كي يسير في هذا الاتجاه للحصول على واجب الضيافة التي كانت صفقة اساسية لحاتم الطائي وقبيلة وطيء كلها. منذ فترة قريبة نشرت بعض الصحف ان قصر حاتم الطائي تعرض للهدم، لكن صاحب المزرعة التي تضم قصر حاتم الطائي وقبره دالى العضيباوي نفي ان يكون القصر قد هدم، مشيرا الى انه لم ولن يسمح لاحد بالاعتداء على قصر اكرم العرب . القصر عبارة عن مبنى طيني بسيط جدا، هدم معظمه ولم يتبق منه الا اطلال. لا يوجد ما يشير الى ان هذا القصر كان ملكا لحاتم الطائي، لكن صاحب القصر دالي العضيباوي يؤكد ان هذا القصر يخص حاتم الطائي، مشيرا الى ان نحتا على صخرة في احد اركان القصر عثر عليها منذ نحو نصف قرن، اثبتت انه القصر الذي كان يقطنه حاتم الطائي، منوها الى ان النحت عبارة عن وصية من حاتم الطائي لابنه عدي. واضاف العضيباوي ان ثمة دلائل تؤكد انه عاش ومات هنا مثل الضريحين وبئر الماء الذي يعرف ببئر الشيخ والموقد الذي كان يوقده حام الطائي ولا يتركه ينطفئ رغبة في استقبال الضيوف واكرامهم. وتذكر الكتب التي ترجمت لشعراء العصر الجاهلي وحاتم على رأسهم فقد كان شاعراً فحلاً أن حاتم الطائي كان ينحر عشرا من الابل يوميا لاطعام الناس واكرامهم. ويذكر مالك قصر حاتم انهم توارثوه ابا عن جد، وانهم كانوا يسكنونه سابقا وازالوا العديد من الغرف منه واضافوا غيرها، ولم يتبق من القصر الا برج واحد. دراسات وأبحاث ويوكد مدير الاثار والمتاحف في حائل سعد الرويسان انه من المؤكد ان حاتم الطائي عاش في قرية توارن، «إلا ان عدم اجراء الدراسات والابحاث الاثرية على الموقع يجعلنا بلا معلومات دقيقة حول القصر والضريح اللذين تعرفنا عليهما من روايات اهل المنطقة، مشيرا الى ان الاثرين مدرجان ضمن المرحلة الثانية لتهيئة المواقع السياحية. والحقيقة أن قرية توارن الكريمة تحتاج الى نظرة كريمة من المسؤولين هنا، فهي تحتاج الى التطوير وتعزيز فرصها السياحية، استثمارا لشهرة ابنها الكريم حاتم الطائي. فهناك سياح اجانب وعرب يزورون المكان لكن القرية بلا خدمات ويعتمد الزائرون على كرم اهلها الحاتمي، هذا الكرم الذي جعل اهل حائل لايتركوننا الا بعد ان نحروا عشرات الخراف اكراما لنا، وبالطبع كلها دفنت كسابقاتها في بطوننا. وبعد هذا الكرام لم يتبق لي الا القول وبصوت مرتفع: سلام عليكم يا حاتم الطائي.. انت وأهل حائل في العالمين.