الشاعر قد يكون مجيدا وبارعاً في نظم قصيدته، أعطاها كل اهتمامه وراق له جميع محتواها وبنيتها : أوزانها، قافيتها بل وتناسقها وتناغم عباراتها واستعذاب السامع لها وقبول جرسها وتسلسلها وصورها وحسن أسلوبها، ولكن مع كل هذا قد تغيب عن الشاعر رغم كل هذا كثير من المعاني وقد يكون غوصه في العمق محدوداً بل محددا بإمكاناته هو، اللغوية والثقافية وغيرها، فيظل في سطح تلك الصور والمعاني رغم جودة كل المباني التي طرقها. وهذا مرده الأول والأخير إلى الشاعر نفسه وما يحمله من تجارب وثقافة وحصيلة من الحكم والأمثال والاطلاع يمكنه هذا الرصيد من المقارنة والتشبيه والمقابلة، وعليه فمن الطبيعي أن لا تحضره أشياء غائبة عنه في الأساس لاستحالة ذلك، شأنه شأن الكاتب والمتكلم في كل فن، فلا ينطق اللسان إلا بما حواه الجنان وكان رصيداً في ذاكرة القائل. ولكن بعض الشعراء يغرفون من بحر المعاني وينهلون من تجارب جمة وينبوع متدفق يجري بالحكم والوصايا والأمثال، وقصائدهم سمت في بلاغتها ومضامينها وأفادت وأجادت في عطائها حتى أصبحت مقطوعات أدبية ثمينة ومن ذلك قصائد الشاعر : محمد العبد الله القاضي الذي عاش في منتصف القرن الثالث عشر الهجري، وهو العصر الذي ضم عددا من الشعراء البارزين ومنهم هذا الشاعر. قصيدته هذه بدأ فيها بخصال محمودة على رأسها : الصبر، ثم العقل، والصمت وذم البخل والمطل أو مخالفة الأفعال للأقوال، وهكذا يسترسل الشاعر في تبيان كل صفات مرغوبة ونبذ كل صفة مذمومة بإبداع منه وتمكن من المعاني الجميلة مشبعاً أبيات القصيدة بالسمين من الأوصاف والصور وبأسلوب متسلسل يبدأ فيه بالمهم ويوضح الموقف من كل خصلة حميدة أو ذميمة لترقى قصيدته إلى مستوى الشعر الجيد الذي نحتاجه كضابط من ضمن ما يسترشد به ويهذب النفوس ويعين على الأخذ بمكارم الخلق الرفيع. والقصيدة في مجملها تسجيل لتجربة رائعة ودرس في الحياة شاملة لكثير من جوانب المجتمع وأفراده وما يجري فيه من صحبة أو رفقة أو تعامل أو تفاعل بل وتصوير لنهاية هذه الحياة وأنها إلى فناء ولا يبقى سوى العمل الصالح والذكرى الحسنة والمحاسبة للنفس تحسبا ليوم الحساب. رحم الله الشاعر محمد القاضي وأسكنه فسيح جناته. والقصيدة طويلة ومنها قوله: الصبر محمود العواقب فعاله والعقل أشرف ما تحلت به الحال والصمت به سرّ سعد من يناله والهذر به شرّ وشومٍ وغربال وأشر آفات الفتى البخل بماله وأشر منه المطل في كل ما قال ولا خير باللي ما يصدّق مقاله فعلٍ بحالاتٍ قصيرات وطوال فالبلّ معلومٍ بالأيدي عقاله والخيل تزلج بالشبيلي والأقفال حتى قال: والفقر هدّامٍ براسه صعاله والجود من ماجوده إن ثار بعقال ولا يفتخر من جاد جده وخاله هي بالهمم لا بالرمم مثل من قال فالجمر يمسي كالخلاص اشتعاله ويصبح رمادٍ خامدٍ مغبرٍ بال حتى قال: فالدهر له حال اكترابٍ وحاله يِنفكّ منه العسر باليسر ينجال كم ضيقةٍ ينفكّ مشكل مجاله بلطفٍ مْنُه ما عاد يخطر على البال إن رمت رايٍ فاستخر ثم واله واعزم وزمّ واجزم على الحال بالحال