لا شك أن الغبار أصبح من منغصات الحياة هذه الأيام، خصوصاً مع ديمومته واستمرار وتيرته، والكل يعرف أن الغبار عبارة عن جزئيات دقيقة لمواد عديدة يأتي في مقدمتها ثاني أكسيد السليكا (الرمل) واللقاحات والألياف الحيوانية والنباتية بالإضافة إلى البكتريا والطفيليات ناهيك عن الردما، والمخلفات الصلبة التي تنفثها عوادم المصانع، وغيرها من المواد التي قد يصعب حصرها. والغبار اليوم لم يعد مصدر ازعاج يحتاج إلى ديمومة التنظيف فقط بل أصبح خطراً صحياً يعاني منه الصغار والكبار، وما اكتظاظ مراكز الإسعاف في المستشفيات بالمراجعين الذين يشكون من أزمات بالتنفس إلا خير دليل على ذلك. والمشكلة تتفاقم عندما يتكاتف الغبار مع مصادر التلوث الأخرى التي تشهدها المدن الكبيرة والتي تأتي بصورة رئيسية من عوادم السيارات ومداخن المصانع وما تحتويه من مركبات هيدروكربونية وثاني أكسيد الكربون والأسيد النيتروجين وغيرها حيث يصبح الخطر أدهى وأمر. إن الرياح تحمل معها مواداً عالقة كثيرة مثل المبيدات الزراعية والحشرية والمعادن الثقيلة وإذا أضفنا إلى ذلك أن ذرات الغبار تستطيع حمل أنواع خطيرة من البكتيريا خصوصاً الذرات المتناهية الصغر التي يقل حجمها عن (2.5) ميكرون، ومصدر الخطورة هنا يكمن في أن الذرات الصغيرة جداً تستطيع الوصول إلى الرئة في حالة استنشاقها، أما الجزئيات الكبيرة نسبياً فتعلق في الجهاز التنفسي العلوي لذا فإن مضاعفاتها أقل، ومصدر خطر الذرات الصغيرة جداً أن الرياح تستطيع حملها ونقلها لآلاف الكيلو مترات، وقد أوردت منظمة الصحة العالمية انتشار عدد من الأمراض التي كان سببها العواصف الترابية مثل تلك التي حدثت في مناطق الصحراء الكبرى عام 1996م وتسببت في انتشار مرض التهاب السحايا. وقد قام الباحثون بعزل البكتريا المسببة للمرض من ذرات الغبار والعواصف الترابية وما تحويه من مكونات تسبب أمراضاً عدة مثل الحساسية والإرهاق، وفقدان الشهية والحكة وأعراض أخرى لا تستطيع تحاليل المعامل التعرف على أسبابها. هذا وقد قال البروفسور أندرو جودي في مؤتمر الجغرافيين أن الغبار يؤثر على صحة الإنسان والشعب المرجانية ويلعب دوراً بارزاً في التغير المناخي. وقال إن انتشار الغبار وعبوره الحدود جعل منه قضية عالمية لا تحظى حالياً بالاهتمام الذي تستحقه لا على المستوى الفردي للدول ولا على المستوي الجماعي لها. هذا وقد أشار إلى وجود أحواض للغبار تعتبر من المصادر الهامة للغبار على الأرض، وذكر أن منخفض بوديلي في تشاد من أهمها وأكبرها، ولا شك أن هناك أحواضا أخرى لم يناط اللثام عنها، وأضاف بأن إنتاج الغبار قد زاد عشرة أضعاف خلال الخمسين سنة الأخيرة، كما أشار في محاضرته إلى أن للغبار آثار ضارة على البيئة في غير وجوه مثل التغير المناخي، وتمليح التربة ونقل الأمراض والتأثير على الخصوبة وإحداث تغيرات في المحيطات والمناطق الجليدية، وتلوث الهواء ومعادلة الأمطار الحمضية، كما أن له تأثير على نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو وبالتالي هذا يؤثر على درجات الحرارة وسقوط الأمطار، ليس هذا وحسب بل أن له أثاراً على الغطاء النباتي مما يزيد من التصحر وبالتالي إنتاج مزيد من الغبار. ولا شك أن للجفاف وسرعة الرياح وزيادة الرعي وجودة وقطع الأشجار والتفحيط والتخييم والتطعيس وحركة التعمير وقلة سقوط الأمطار وانحسار الغطاء النباتي وخواص التربة والمحتوى الرطوبي الضعيف كلها عوامل تتكالب لتجعل من الغبار ظاهرة شبه دائمة تضيف منغصاً جديداً يشد من أزر الحرارة الشديدة الارتفاع ويفاقم من آثارها. وعند الحديث عن الغبار لا بد من ذكر أن الغبار الذي ينتج عن نشاط الإنسان في المصانع والمنشآت مثل غبار القطن في مصانع القطن وغبار الخشب في المناجر والورش وغبار مصانع الاسمنت والجبص وغيرها مما يمثل مصادر إضافية للغبار العام ويعزز تراكم محتواه، كما أن للغبار الصناعي آثار ضارة كثيرة حيث يسبب الحرائق والانفجارات وقد حدث مثل ذلك في كل من اسبانيا عام (1979) في مصنع للأعلاف وحدث في نيورن في فرنسا عام (1997) بسبب غبار الحبوب، وفي كنساس بأمريكا حدث انفجار بسبب الغبار راح ضحيته (17) شخصا وقدرت الخسائر بحوالي (850) ألف دولار من الانفجارات التي تحدث بسبب الغبار كثيرة ومتعددة. الغبار له أضرار مادية بالغة فخلال العاصفة الرملية التي اجتاحت المملكة يوم (13/3/1430) والتي تدنت الرؤية خلالها إلى أقل من خمسين متراً حدثت أضرار مادية وصحية بالغة، فحوادث السيارات كثيرة ومراكز الإسعاف في المستشفيات غصت بالمرضى والمطارات أقفلت والموانئ عطلت وحركة النقل توقفت والشوارع والأشجار دفنت والبيئة تلوثت وبهجة الحياة اختفت والشوارع أقفرت وأغبرت والنفوس تكدرت ولا زال الغبار يمارس سلطته وازعاجه ونكده بشكل لم يسبق له مثيل مما يدعونا إلى أن نشحذ الهمم ونبحث عن الحلول فليس هناك مشكل أو مرض إلا وله حل أو علاج قد يكون شاملاً أو جزئياً.. لكن الحلول لا تأتي من خلال التمني أو تبادل الاتهامات، إن الحل يكمن في إيجاد وتبني مبدأ، وجود خزانات التفكير Think Tanks وهذه الطريقة المثلى لتبني الاستراتيجيات الناضجة والخطط الفعالة ذلك أن الأفكار النيرة تأتي نتيجة البحث والاستقصاء والتجربة والاستقراء والاستنتاج، إن الأعمال الاستراتيجية لا يمكن أن تقوم بها اللجان المنبثقة من هنا أو هناك، بل أن الذي يستطيع القيام بها المؤسسات العلمية البحثية المتخصصة، لذلك فإنني أدعو إلى إنشاء مركز وطني مستقل ومتخصص في مجال أبحاث التصحر والغبار وشح المياه، إن المشاكل المترتبة على وجود ذلك الثالوث الذي نعيش بين ظهرانيه وليس لدينا بديل عنه وفي نفس الوقت نعترف بأن بعض مظاهره هو نتيجة حتمية لسوء الاستخدام، هناك صور عديدة ومتشعبة لذلك، فهي تحتاج إلي حصرها ومن ثم التعامل معها بجدية، ذلك أن كل المشاكل الطبيعية والصناعية تخضع للبحث والتمحيص وإيجاد الحلول سواء كانت زلازل أو براكين أو عواصف بحرية أو فيضانات أو ثلوج أو غيرها ولعل أبسط النتائج تتمثل في الإنذار المبكر والاستعداد مما يقلل من الخسائر والمعاناة. وإذا عدنا إلى أوضاعنا المحلية وأزمة التصحر ومن ثم الغبار والمسبب لتكالبهما وهو شح المياه نجد أننا نحاول أن نعمل شيئاً لكن بجهود مبعثرة وليست مركزة مما يدعونا إلى ان نستعرض بعض المظاهر القائمة والتي من أبرزها: ٭ عدم وجود جهاز مركزي يعتني بالمتغيرات الثلاثة بصورة تكاملية خصوصاً أن شح المياه من أسباب التصحر والتصحر من أهم أسباب الغبار، فوزارة المياه والكهرباء ووزارة الزراعة ومصلحة الارصاد وحماية البيئة والكراسي العلمية ذات العلاقة في جامعة الملك سعود كل منها يعمل بصورة مستقلة وضمن أهداف ضيقة وليست تكاملية. ٭ عدم وجود تنسيق بين الجهات الحكومية المختلفة لأخذ الاحتياطات اللازمة لتفادي الآثار السلبية للعواصف الترابية الكثيفة، والتي تمثلت يوم 13/3/1430ه بحوالي (121) حادثاِ مرورياً و(48) طلب مساعدة وازدحام أقسام الطوارئ في مستشفيات مدينة الرياض فقط وقد أعلنت حالة الطوارئ في المستشفيات نتيجة لتلك العاصفة المفاجئة، ومن ناحية أخرى نشطت الصيدليات في عملية بيع الكمامات الواقية بشكل لافت للنظر.. كما أجبرت تلك العاصفة بعض المدارس على إغلاق أبوابها، وكذلك المطارات والموانئ. ٭ عدم وجود برامج توعية للتعامل مع تلك الحالات الطارئة سواء من خلال وسائل الإعلام الحديثة والمسموعة والمقروءة أو من خلال المقررات الدراسية التي يجب أن يكون للبيئة ومفرداتها وطرق التعامل معها حيزاً واسعاً، فالتوعية البيئية هي صمام الأمان الأول والذي يجب أن تتعلمه الأجيال.. ذلك أن الوعي البيئي من أهم علامات التحضر والتقدم والرقي. وعلى أية حال فإن من أهم مهام المركز الوطني المتخصص والمستقل الذي تدعو الحاجة إليه والذي يجب أن يتمتع بميزانية تتناسب والمهام التي سوف توكل إليه ما يلي: ٭ اعتماد استراتيجية موحدة للتوعية البيئية والإنذار المبكر من خلال الاستفادة من الأقمار الصناعية ووسائل الإعلام المختلفة وتجارب الآخرين. ٭ إنشاء مختبرات متقدمة لأبحاث التصحر ووسائل الحد من تفاقمه كمرحلة أولى ثم الاتجاه إلى محاربة التصحر بوسائل مبتكرة ومعروفة في المرحلة الثانية ولا شك أن معرفة أسباب التصحر هي المفتاح الأساسي لتلافيها وهذا بدوره سوف يحد من الغبار الذي من أهم أسبابه التصحر المقرون بسوء التعامل مع البيئة من خلال القضاء على الغطاء النباتي ومن خلال الاحتطاب أو المرعى الجائر خصوصاً من قبل بعض الحيوانات التي لا تبقي ولا تذر مما تمر عليه من اخضر أو يابس والتي ربما تعتبر دخيلة على البيئة المحلية. ٭ البحث في الوسائل والطرق الناجعة التي يمكن أن يتم من خلالها توفير المياه الصالحة للشرب أو الزراعة أو الاستخدام الحيواني، ومن ذلك التوسع في برامج حصر مياه الأمطار وإعادة تدوير مياه الصرف الصحي وتحلية مياه البحر للأغراض التجارية مثل الزراعة وتوليد الكهرباء، وبيع ما يصلح للشرب، بالإضافة إلى دراسة جلب المياه من مناطق الوفرة بالوسائل والطرق التي لا تجعل الوطن حبيسا لإمداداته، وذلك من خلال تبادل المصالح مع الدول المختلفة التي تزودنا بتلك المياه أو الدول التي تمر من خلالها أنابيبه، وفي كل الأحوال يجب التعامل مع هذا الموضوع بحذر بحيث يصنف على أنه وسيلة ثانوية قابلة للانقطاع بين فترة وأخرى، كما أن الاتجاه إلى استخدام الطاقة الذرية في تحلية مياه البحر وتوليد الكهرباء أحد الخيارات التي يجب أن تكون مطروحة للبحث والاستقصاء من قبل ذلك المركز. ٭ العمل على إعادة الغطاء النباتي المندثر بالوسائل الممكنة والمتاحة والبحث عن أفضل السبل لتحقيق ذلك من خلال اختيار نوعية النباتات المناسبة والملائمة للبيئة الصحراوية الجافة والتي توفر الظل وتعمل كمصد للرياح وكمثبت للتربة وكعضيد للمحافظة على الحياة الفطرية وإنمائها. ٭ البحث عن وسائل جديدة وفعالة لتثبيت التربة ومنع التعرية وزحف الرمال وهجرتها، وكذلك تطوير الوسائل المعروفة والمتاحة المستخدمة لهذا الغرض. ليس هذا فحسب بل يجب الاهتمام بوضع الضوابط والأنظمة التي تمنع العبث بالتربة والتي تؤدي إلى تفككها وإلزام الشركات والمقاولين بإصلاح ما يتم افساده نتيجة ممارساتهم وأعمالهم، وكل ذلك في سبيل الحد من التصحر وانبعاث الغبار. ٭ يقوم المركز بإعداد الكوادر الوطنية المؤهلة للقيام بما يحتاجه المركز وغيره من القطاعات الحكومية والخاصة. إن وجود الكوادر المدربة والمتخصصة وذلك في مجال البحث والتطوير أو جمع المعلومات ميدانياً وكذلك المتابعة وإعداد التقارير وتحمل مسؤولية التوعية ناهيك عن إجراء التجارب على أرض الواقع في غاية الأهمية. إن طبيعة ومهام المركز الوطني لأبحاث المياه والتصحر والغبار تفرضها توجهاته ووسائله وغاياته والصلاحيات والميزانية الممنوحة له. نعم إن المملكة العربية السعودية دولة صحراوية شاسعة ومترامية الأطراف يتسم مناخها بالجفاف والحرارة وتفاقم مشكلة التصحر نتيجة انحسار الغطاء النباتي وعوامل أخرى وكذلك بشح المياه وكل هذه الأسباب هي المسؤولة عن تفاقم مشكلة الغبار، حيث أن تلك المشاكل تزداد سوءاً وتفاقماً بوتيرة متسارعة، فإن العمل على إنشاء مركز وطني لأبحاث التصحر والغبار وشح المياه أصبح واجباً وطنياً يجب أن يلتفت إليه بصورة جدية. كما أن الطموح يجب أن يكون كبيراً جداً بحيث يكون ذلك المركز أكبر مركز متخصص لأبحاث التصحر وشح المياه على مستوى العالم، خصوصاً أن هناك عددا كبيرا جداً من الدول تعاني من هذه المشكلات وبالتالي وجود ذلك المركز المتميز في المملكة يحقق لها السبق وتوطين التقنية وبالتالي سوف يجعل منها مركز خبرة عالمي ينشده أصحاب الحاجة. إن الاستثمار في العقل والعلم ومفرداتهما هو أنجح وسيلة لصنع التقدم وأسرع طريقة لتوطين التقنية وتحقيق الريادة العالمية، وهذا من وسائل خلق مجتمع المعرفة الذي ننشده ونسعى إلى تحقيقه وبنائه. والله المستعان.