لا يمكن التغاضي عن أن السجال الفكري في بدايته يخاض حول رموز معينة، أكانت قضايا تتحول إلى أيقونات ثقافية وفكرية، أو حول أشخاص يتم التحارب حول خطابهم، إما لمكانتهم الثقافية وعمق رؤاهم المعرفية، أو بسبب تأثيرهم، وهذا ما ينطبق بصورة ما على الجدل الدائر حول ابن تيمية والكتب المؤلفة حوله محلياً، ومن هذه الكتب ما طرحه الباحث سعود السرحان في كتابه «الحكمة المصلوبة: مدخل إلى موقف ابن تيمية من الفلسفة» والذي يبحث من خلاله موقف ابن تيمية من الفلسفة كمدخل مختصر، جاء الرد عليه من الدكتور عبدالله الهدلق في كتاب «الهادي والهاذي: ابن تيمية جلاد الحكمة المصلوبة». يمكن ابتداءً وضع الحوار والجدل المتكرر حول ابن تيمية في هذا الإطار، والذي يبدو بأنه انتقل من جانبه العقدي والفقهي، البحت حول القضايا الكلامية والفقهية، إلى جوانب مرتبطة بالفكر الديني المعاصر، ومن المثير والملفت للانتباه أن ابن تيمية من أكثر الفقهاء الذي تباينت حولهم الآراء بشكل حاد، بين انغلاق فقهي وعقدي يمكن أن يوصم بالرؤية الأصولية المتطرفة - وربما الجهادية- حسب تعريف السيد ولد أباه للأصولية وتفريقه بين الأصولية والسلفية، أو الرؤى السلفية التقليدية السائدة، أو الإصلاحية المختلفة كأطروحات أبي يعرب المرزوقي حول النهضة العربية والإسلامية كمشروع استلهم فيه ابن تيمية بصورة ملفتة، أو استلهام آرائه على الصعيد المحلي في التحليل كما يكتب منصور الهجلة في مقالاته أو الشيخ عبدالعزيز القاسم والذي يرى بأن «سقف التنوير» مرتفع عند ابن تيمية ولم يجارَ إلى الآن من أي فقيه، وفي إطار مغاير يأتي كتاب عائض الدوسري حول ابن تيمية والآخر، ليكمل الانقسام الشديد حوله. يؤكد الدكتور حسن حنفي في تقديمه لكتاب «الحكمة المصلوبة» على أهمية الدراسة لكونها دراسة سعودية أولاً، ولأنها تعتمد على المصادر الأصلية والمراجع الرئيسية، وتدافع عن الفلسفة بشكل صريح من داخل الموقف السلفي، وهذا ما يؤكد عليه الباحث ذاته حين كتب في مقدمته حول الدراسة «وحسبي أن أكون مهدت الطريق أمام هذه الدراسات التي سيكون لها الأثر الكبير ليس على الفكر السلفي فقط بل وعلى الفكر الإسلامي بصورة عامة» هذه العبارة جعلت الدكتور الهدلق يسخر من السرحان ويتحدث عن الرغبة بالتأسيس الثقافي والفشل في المشروع السلفي ووصف الهدلق موقف سعود السرحان «بالمشغب على المدرسة السلفية» ويصفه ب«الثأر .. الشعور بالنقص ..النشوة المعرفية ..هذا البحث يظن كاتبه أن حجم الإبداع يقاس بمطلق الجرأة على الثوابت .. استظهارات هذا العقل تكشف عما يمني به الإنسان نفسه حين لا يوفق في الموازنة بين طموحة وإمكاناته..لولا ما بلينا به من هذه الرعونة .. من أين يستمد هؤلاء هذه الجرأة والقدرة على الصفاقة؟» وتجد هذه العبارات وما شابهها من حديث شخصي حاد منثورة في طيات «الهادي والهاذي» ومن الملفت بالإضافة إلى التأزم الواضح من كتاب «الحكمة المصلوبة»، أن أول ما فعله الهدلق في رده الاستعانة بترسانة من أقوال من يرون في ابن تيمية مستوعباً للفلسفة بشكل كامل وناقض موفق في نقضه كأبي يعرب المرزوقي وعبدالحكيم أجهر ومحمد عمارة وغيرهم. بحث السرحان جاء في ستة محاور: واقع الفلسفة في عصر ابن تيمية والأسباب التي دعته للاهتمام بها، ومدى أصالة اطلاعه على التراث الفلسفي، وتأثره بالفلسفة، ومواقفه من الفلسفة وبعض أبرز الفلاسفة، وفرق في بحثه بين موقف ابن تيمية من الإلهيات وبين الطبيعيات، ونفيه لوجود فلاسفة في الإسلام، وكون ابن تيمية لم يقرأ لأرسطو، وهي النقطة التي رد عليه الهدلق من خلال تأكيده على عمق اطلاع ابن تيمية على ابن رشد، أفضل من شرح أرسطو، وكذلك تحدث السرحان عن خلط ابن تيمية بين المدارس الفلسفية وعدم تفريقه بين ما قبل أرسطو وما بعد أرسطو ومواقفهم، واستخدام الفلسفة بشكل نفعي وسجالي. كان حديث السرحان مختصراً ومحدداً بشكل كبير، وربما كان هذا الاختصار مخلاً في نقاش موضوع من هذا الحجم والأهمية، وجاء رد الهدلق مقنعاً في بعض القضايا كحديثه عن أن ابن تيمية درس أرسطو عن طريق ابن ملكا وابن رشد أفضل شراحه، أو حديثه عن الفيلسوف سيف الدين الآمدي. الهدلق انطلق في رده كما يقول من كون ابن تيمية «أربح ورقة لها - السلفية- في التراث العقلي عامة» وينقل هنا موقف له العديد من الدلالات حول دوافع الهدلق في الرد على السرحان، حيث ينقل في الهامش قصة عن الشيخ إبراهيم ابن جاسر يذكر أن الشيخ بعد أن غلبه النشيج والبكاء بين طلابه وهو يدرسهم «منهاج السنة» ثم قال: أيها الأخوان لو لم يقيض الله لهذا الطاغية وأمثاله - يقصد ابن المطهر- هذا الإمام الكبير - ابن تيمية - فمن الذي يستطيع الرد والإجابة على هذه الحجج والشبهات. هذا الموقف، وبعض العبارات التي ذكرها الهدلق حول مكانة ابن تيمية وتفرده عند التيار السلفي، يوضح تماماً معنى أن يتحول شخص ما إلى أيقونة ثقافية ومركز صراع، مع التأكيد على أن فقيهاً كابن تيمية يُتفهم تماماً هذا الجدل حوله، والتنوع في قراءته، وربما كانت دراسة السرحان قابلة للنقاش بشكل أكبر، دون وضعها في سياق الانبهار بالغرب، والتشغيب على المدرسة السلفية، والانطلاق من عقدة الثقافة. الملفت في طرح الهدلق محاولة عقلنة موقف ابن تيمية من الفلسفة ولو بأثر رجعي حين يقول «ان ابن تيمية كان يهدف إلى إزاحة الرهبة من الآخر وكشفه وتحجيمه والتصدي لأي وصاية فكرية تصدر منه» هذه الروية تهدف لجعل موقف ابن تيمية موقفاً فكرياً عقلياً لا موقفاً نصوصياً كما هو معروف.