أقل من وطن وأكثر من بلدة وقطاع، تلك هي غزة التي يرشحها تكوينها الجغرافي وجواراها المصري والاسرائيلي لمحنة يصعب تصور نهايتها منذ الآن، وكل يوم يمر على هذه الأزمة يبعد تصور أي حل لها قادر على اشعار أهلها بالرضى عن حاضرها أو التفاؤل بمستقبلها. ولقد عانت مناطق عديدة سواء في البلاد العربية أو غيرها من صعوبات مماثلة لتلك التي تعيشها اليوم غزة ومنها وان بتفجيرات أمنية أقل لبنان الذي يؤشر تاريخه على انّه كان يمر في مراحل معينة بأزمات تصل الى حد تسميتها بالثورات التي تلعب فيها عادة أياد من خارج لبنان أكثر مما تفعل الأيادي اللبنانية. لكأن غزة محدّد لها سلفا بفعل التوازنات الدولية أن تكون شاكية لا أن تكون فاعلة أو مقتربة الى بر الأمان مثلها مثل بعض المناطق في العالم المحكوم عليها بسبب تكوينها الداخلي ومحيطها الجغرافي أن تواجه بين فترة وأخرى ما يشبه الاستحالات ودائما تضطر أطراف داخلية فيها الى اقفال الجراح بدلا من مداواتها حتى شفائها. عرفت غزة على مر الأيام بقوة مشاعر العزّة عند اهلها فهي تاريخيا لم تذعن لغاز ولم تستقر على وصفة حل أتى بها اليها أخ قادر في محيطها سواء كان مصريا أو كان فلسطينيا أو عربيا كما عرف تاريخها. تشبه حالة غزة الحالة التي عرفها لبنان في آخر العهد التركي أو قبل ذلك حيث اعتبرت المشكلة اللبنانية في زمن ما همّا لم تقدر على مداواته أي قوة خارجية سواء شرقية أو غربية. يفخر أهل غزة بمنطقتهم الجغرافية ويطلقون عليها اسم "غزة هاشم" بما يعني أنّها دائما صاحبة حق تاريخي وغير حاصلة عليه بشكل كامل وحتى من كان في يوم من الأيام الزعيم المطاع في فلسطين وغير فلسطين وهو الحاج أمين الحسيني كان له دائما من المنافسين القادرين داخل غزة مثلما كان له من المؤيدين وربما أكثر. لو استعدنا صورة غزة منذ االعهد التركي مرورا بعهد الانتداب الانكليزي وصولا لعهد الاستقلال المرعيّ من مصر أدبيا قبل أن يكون فعليا، نجد أن الكل في غزة كان دائما قويا ولكن بوجه آخر قوي هو ايضا، المعتدلون من زعمائها ضد الانكليز ك "آل الشوا" استمروا مقدسيين، والمتطرفون في عدائها كانوا أيضا أقوياء. وكما الزعامات كذلك القوى الجديدة من عامة الشعب وأوساط النّاس كانت أيضا قوية فيها المدارس الحديثة وفيها المدارس التقليدية، الكل فيها قادر على التصدي والصمود ولكن لا أحد قادر فيها على الانتصار بمعنى الحسم والتفرّد. قراءة في تاريخ غزّة ترينا أنه كان دائما أسهل على غزة أن تقاتل من داخلها ضد داخل آخر منها أن تتفق مجمعة ضد صاحب مخطط خارجي - عربي أو أجنبي أو حتى فلسطيني. ولكن هذه المرة تبدو غزة مختلفة عمّا كانت في معظم مراحل تاريخها، فهي تشعر أنه بدونها لن تكون فلسطين كاملة التمثيل والوجود، لا عربيا ولا اسلاميا ولا مسيحيا. لقد أمكن يوما ما أن تكون في غزة حكومة اسمها حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد حلمي باشا المصرفيّ الثري الشركسيّ الأصل الفلسطيني الدور ولكن كانت غزة دائما تتناحر وتختلف على طاولة الولاء لفلسطينيتها والحساب الخاص لجار عربي قوي هو مصر الحقيقية والمستمرة. المسلمون داخلها كثرة لكن المسيحيين فيها أيضا ليسوا قلّة، تبدو غزة مدينة غير قابلة التأثير عليها من الخارج، كاملة الفلسطينية بل مستعدة للمزايدة فيها اذا لزم الأمر بل قبل أن يلزم في بعض الحالات، محبّة للجار والأخ المصري لكنّها محبّة أيضا للجار الفلسطيني أولا. غزّة تبقى غزّة والغزاوي يبقى غزاويا كامل الولاء لصفته الفلسطينية وقد ازداد هذا الاحساس بالهوية منذ تحولت غزّة مؤخرا الى أن تصبح الممثلة الأكثر حيوية وفعالية لفلسطين الهوية والكرامة والصمود. يجد حكّام اسرائيل انفسهم اليوم أمام وضع قلّما واجهه بل لم يواجهه قطعا أي سلف لهم ممن سمّوا آباء الصهيونية ك"بن غوريون" أو غيره أو حتى "شارون" في الزمن القريب، فقد كان يسهل في زمن مضى ايجاد حل يتنازل به الجانب الاسرائيلي بشيء قليل أو كثير من التنازل للجانب الفلسطيني لقاء تقدّم حقيقي يناله الجانب مالك زمام المبادرة أما الآن فسيكون صعبا بلا شك أن يتنازل أولمرت وهو يعتبر نفسه منتصرا مما سيدفع الأمور نحو أوضاع لا يكون معها مناص من تسليم جهة عربية قادرة هي مصر في الحالة التي نحن فيها ادارة الأمن والسلامة العامة في المنطقة بصفتها الجهة الوحيدة التي يمكنها لوجستيا لعب هذا الدور. الى حدٍ بعيد، يتقاطع وضع غزة اليوم مع نظرة دولية عليا ترى في مصر أنها وحدها مؤهلة للعب دور ضابط الايقاع بين الفلسطينيين والاسرائيليين ودول المنطقة، فوحدها مصر يمكن تفويضها في النهاية بادارة منطقة لا يشعر فيها الفلسطيني أو الاسرائيلي أنّه محكوم من قبل قوّة عاجزة عن السيطرة. دولة من المنطقة هي، عارفة بشؤونها، تعوّدت على أن تتعامل من خلال مؤسسة كجامعة الدول العربية مثلا مع دول عديدة وتكون لها الناصح المطاع والكبير المفوّض وهي بذلك تملك تاريخا من النجاح ومخزونا من الخبرة ودرجة من التفوّق في الحجم من طبيعته تمكينها من ارضاء القريب والبعيد وعلى الأخص البعيد الدولي الذي يعرف طبيعة المنطقة قبل وجود اسرائيل وبعدها ويقدّر الاستحالات التي ينطوي عليها أي مشروع يغالي في اهمال عروبة المنطقة لمصلحة دور اسرائيلي استفزازي من طبيعته أن يخلق ردود فعل يجعل من المنطقة غير قابلة الاستقرار عن طريق فرض ما يشبه الوصاية الاسرائيلية على جهة عربية اسلامية مسيحية بالأصل اسمها فلسطين، مجاورة لاقوى دولة عربية هي مصر. ليس هذا بالطبع هو الشيء الذي كانت تتوق اليه اسرائيل وهي تصعِد المواقف بلا رؤية واضحة لأي حل من أي نوع كان لكنّه في كل حال يبقى الاقرب في عقول قلّة متعصبة مغرورة من الاسرائيليين الى أن يحفظ أمن المنطقة والحياة الطبيعية او شبه الطبيعية بينما الأممالمتحدة أو ما شابهها من الجهات الدولية تعرف ان ذلك لا يمكن توفيره الا بالتعاون مع دولة في المنطقة هي مصر غير البعيدة تقليديا عن لعب الأدوار الدولية الضابطة والمسؤولة. دول أخرى كتركيا أو يوغوسلافيا السابقة أو الهند مثلا كان يمكن أن يفكَر بها كامكانية دور مساند أو تعقيلي على الأقل في هذا المجال ولكن لا بد من القول إن اقتراح تركيا قد تحرك والله أعلم خصوصا وأن أردوغان بنفسه انتقل الى العمل السياسي الميداني هناك. سقى الله تلك الأيام التي كان فيها أشِخاص ك"نهرو" و"تيتو" وغيرهم من زعماء العالم الثالث يلعبون دور المفعِل أو المعدِل في سياسات القارات صاحبة المصلحة الحقيقية في عالم لا تحكمه عقليات التسلّط بل تحرّكه نوازع العدالة وأنسنة التعامل بين البشر. ان منطق دعوا العربي يضبط أمن المناطق العربية هو الحل الوحيد الذي تفرضه الحالة السياسية في المنطقة. الآن هل سيقنع مثل هذا الكلام اسرائيل؟ ذلك أمر عليها هي امر الجواب فيه والا الانزلاق لخسارة أدبية وسياسية كبرى اذا هي رفضته. ان العالم كلّه قد راقب مؤخرا عن طريق التلفزيونات مشهد الانفجار الذي دخلته المنطقة ولا تزال فيه منذ بداية العدوان الاسرائيلي على غزّة ولا بد أن يكون العقل الدولي الموجود في مؤسسة كالأممالمتحدة أو عند الدول الكبرى كأميركا مثلا قد أدرك النتائج غير القابلة للضبط الناشئة عن ظهور اسرائيل بمظهر المتصدّي بغير وعي لدور هيهات أن تستطيع القيام به كضابط لأمور المنطقة. ان الاستعصاء الذي تواجهه اسرائيل والصهيونية حاليا في ضبط الامور ناتج عن لا واقعية متأصلة في العقل اليهودي السياسي وهو نوع من الاستعصاء الذي أصاب بالعدوى بعض الجهات الهامة في العالم كالولاياتالمتحدة مثلا التي تدل كل الدلائل على أنّها تأخرت كثيرا عن ادراك النتائج المدمّرة لمصالحها بهذا التراخي وهذا الضعف النفسي والتراثي الذي ما تزال تعانيه تجاه اسرائيل والصهيونية. فأميركا تعامل اسرائيل مع الأسف الشديد كما لو أنها العشيقة "Lola" في الأغنية الأميركية الشهيرة القائلة:"ما تريده (Lola) تناله". للمرة الأولى في التاريخ الحديث عرّضت اسرائيل نفسها من حيث تريد أو لا تريد الى التناقض المطلق مع أي عقل سياسي يمكن أن يكون عند اقوياء العالم الحقيقيين وخاصة عند الولاياتالمتحدة الأميركية بالذات. كانت أميركا تنظر حتى الأمس القريب الى المشروع الصهيوني على أنّه مشروع مؤازر لها أما بعد اليوم فهي ستكتشف أن اسرائيل تطرح نفسها ب"نازية واضحة" بديلا عنها غير حافل بالنتائج التي يمكن أن تؤذي المصالح الأميركية. بصفتها القوية الأولى في العالم والوحيدة الى حدٍ بعيد، تجد الولاياتالمتحدة اليوم نفسها متضررة بالغرور "الهتلري" الذي تحمله الصهيونية اليوم في فلسطين وقد تطلع اليها لا كل عربي فقط ولا كل مسلم فقط بل كل مسيحي غربي أو شرقي. إن ملايين آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية تتساءل اليوم هل ان أميركا مستعدة بمثل هذه البساطة الى التخلي عن موقعها في مكان حسّاس في منطقة كالشرق الأوسط قائلة بوضوح: "إن اسرائيل هي أميركا وأميركا هي اسرائيل؟" و"هل أن اللاعقلانية الصهيونية استولت على عقل أقوى دولة في العالم وصادرت لها دورها الى درجة أنها وضعت أميركا أمام الخيار بين أن ترخي لها العنان في سياستها الشرق أوسطية أو الانتفاض على السياسة الاسرائيلية فتحفظ مصالحها وصداقاتها العربية والاسلامية والمسيحية معيدة كل شيء الى ما كان عليه مسلّمة مصر زمام الأمور في المنطقة المشتعلة اليوم جنوبفلسطين فتكسب بذلك لا احترام المسلمين والمسيحيين في المنطقة وحسب بل تمسك بالأمن في منطقة اسلامية - مسيحية - شرقية والأهم تعيد لفلسطين صفتها كأخت شقيقة لمصر والعالم العربي وكباب للسلام الحقيقي المتناقض مع أبشع استعمار عرفه التاريخ وهو الاستعمار الصهيوني.