لقد حقق هذا الاستعمار المختص بالعرب، قبل اليوم، نجاحاً هاماً في اقتطاع ولو جزء من فلسطين لنفسه، ولكن اخبث ما يمارسه الآن هو تنطحه بكل الوسائل الخافية والظاهرة الى تخريب اي سلام وطني مستقر، او مرشح لأن يستقر في اي بلد عربي، في لبنان او غيره، انطلاقاً من تشويه مسيء لصورته وهويته ومهامه. من موقع شعور الاسرائيلي بأنه مرفوض في المنطقة العربية، وان هذا الرفض، ولو مسيجا بالهدنات، يبقى غير كافٍ لاشعاره بأن الارض التي تحت قدميه ستبقى له، ترتسم في السياسة الاسرائيلية ازاء لبنان، ملامح زهو بالذات من جهة، واشتراطات فاجرة ولو ضمنية، فحواها ان المنطقة كانت ولا تزال خطرة على اسرائيل، وبعيدة عن روحية المسالمة لها، وان لتل ابيب بالتالي الحق بأن تبقى محتفظة بورقة القدرة على تعطيل اي سلام وطني او اهلي حقيقي في اي وطن عربي مجاور لها، وفق استراتيجية تقولها دفاعية، لكنها في الحقيقة شديدة الهجومية. باختصار، وحتى تكون قد وصلت الى طمأنينة السلام الكامل القادر، يبقى في نظرها لمفهومها للسلام ان يكون اباً نصوحاً راعياً لكل مشروع سلامي خارجها، سواء داخلي في البلد الواحد، او في ما بين دول المنطقة. تنظر العين الصهيونية العدوانية الى كل ما حولها ومن هو حولها من نافذتها هذه: فأي سلم عربي في المنطقة داخلي على اي نطاق او بيني مع اقطار اخرى عربية او غير عربية، هو مبعث خطر عدواني عليها، اذا لم تكن هي بالاصل صانعته او راغبة فيه. السلام انا صانعته الوحيدة. هكذا تضمر اسرائيل، بل تصرح، سواء داخل فلسطين في غزة والقطاع، او في لبنان او العراق او اي بلد مجاور او غير مجاور. انا الاب الشرعي للسلامات، فكل ما لا ينطلق من ارادتي وتصميمي ليس سلاماً. ومن حقي، باسم السلام، ان اخرب كل المشاريع الوطنية في المنطقة، وان لم تبدأ عندي او بمعرفتي، فهي ليست من السلام وليست الى السلام. لقد وصلت العنجهية الاسرائيلية في ايامنا هذه الى ما لم تصل اليه في يوم من الايام. ولعلها، ونحن لا نعلم، قد وصلت الى امكنة لم يكتشفها بعد احد. انها من حيث تصور نفسها خائفة تمارس عملياً وضعية المتدخلة في الخفاء، ان لم يكن في العلن، في صنع وقائع في ارض غير المريبة، ان لم تكن ثابتة وصريحة. ان اسرائيل، بعكس ما تقول، لا تفهم السلام مع لبنان الا اعطاءها حق تفكيكه وجعله اوطاناً وكيانات ضعيفة متناحرة مكملة لرسالة الاستعمار القديم الذي كان يغذي دائماً الفتن والتناقضات والحروب الاهلية، ليفرغ لبنان من رسالته وثقته بنفسه وطليعيته في عالمه العربي، وذلك وفقاً للدروس الموروثة بالحذر من صغير الاسرة العربية القادر دائماً على الوثوب والاختراق. فالعصبيات والمذهبيات والطائفيات والمزايدات والمناقصات بلغت في اكثر من مكان عربي، بدءاً بلبنان، حداً ما كان احد يتصور وجوده، بل ما كان احد ليمر في خاطره ان تبدعه الذاتية اللبنانية والعربية، لو لم يسعفها المسعفون من هذا الخارج او ذاك. ان المنطق الاسرائيلي مفهوم بقدر ما هو بغيض ومرفوض. فالصهاينة يطمحون الى اقناع شعبهم أولاً، والقوى المساندة لهم في العالم، بأن من سمح لإسرائيل بالقيام دون اعطائها حق المساهمة في تفصيل المنطقة وفق مصالحها ومشروعها لم يعطها شيئاً كثيراً، بل ربما يكون قد رماها في التهلكة. ولعل تصاعد التطرف في سياستها والتصاعد في اشتراطاتها على الدول الغربية صاحبة الفضل في وجودها، تسببا بمأزق تعيشه المقاومات العربية جسماً وفكراً داخلها وخارجها. فالسلم الضروري لها، هي ليست قادرة على تفصيله، خصوصاً بعد ان ظهر في فلسطين وغيرها كلبنان والعراق، من اصبح ظاهرة جدية في رفض الاذعان للمرسوم من مخططات السلام. فكل، ولو سلم بالسلام من حيث المبدأ، يطالب على الاقل بمراعاة تصوره لأساس القضية ووجهة نظره في الممكن وغير الممكن. تنظر المقاومة الفلسطينية بصفة عامة، سواء فتح او حماس الى نفسها وقضيتها على انها ام المقاومات، ومن حقها ان تكون لها الكلمة الوازنة والمأخوذة من الجميع بالاعتبار الاول. وبالفعل، فان كل القوى الوطنية والقومية والمدنية الجادة في المنطقة العربية انما تحركت بروح مصدرها الاول؛ شعب فلسطين ومقاومته، ويكاد العربي الحركي الذي لم يستوح في عمله روح العمل الفلسطيني المناضل، ان يكون بشكل من الاشكال خارج زمنه، غير منفعل بحرمة الارض العربية التي هو عليها في اقدس بقاعها. في المقابل تعمل الصهيونية بالتحالف مع طغاة هذا العالم، على توظيف كل الاطماع الاستعمارية وقدرات التقدم العصري وتقنياته وامكاناته ضد نهضة هذه المنطقة العربية من العالم وحقوقها ورسالة الاديان بما فيها اليهودية غير المتصهينة، بل ضد السلام نفسه الذي لا تملك له كسلام بذاته اي احترام. والواقع انه ما قام في التاريخ تناقض بين الدين والسلام كما نراه الآن بين اليهودية المتصهينة والسلام على ارض فلسطين. فدولة هذه اليهودية المتصهينة (اي اسرائيل) قد جعلت لنفسها رسالة في هذا العالم بدءا بفلسطين هي تقويض السلام الحق في الشرق الاوسط، احدى مناطق العالم الاكثر صلة بتاريخ الاديان السماوية، فهذه اليهودية المتصهينة حركها دائماً اكثر ما حرك عداؤها للشعب الفلسطيني المسلم المسيحي. الآن وقد فاجأ بوش العالم في رحلته الاخيرة الى فلسطين باقتراح نعت لاسرائيل، هو الدولة اليهودية، لم يقصد طبعاً ردها عن الصهيونة، بل لعله رأى في صفتها الدينية اليهودية، تزكية وتفعيلاً لرسالتها الصهيونية في المنطقة والعالم. انه اقترح لاسرائيل الصفة اليهودية، لا لاعادة تطبيع العلاقة مثلاً بين مسلمي مدينة بيروت ومسيحييها من جهة، ويهودية وادي ابو جميل ايام زمان، وقد كانت طبيعية، ولا تشجيعاً لاستراتيجية تقارب الاديان المعروفة، ولا تذكيراً بأن الصهيونية اصبحت في العالم كلمة شبيهة بالنازية، وكل ذلك لو كان هو المقصود، يخدم صورة الرئيس الاميركي قائله، في بلاده وخارجها، لكن واقع السياسة الاميركية لا يشجع مثل هذا الظن الحسن بقصد الرئيس من تسمية اسرائيل بالدولة اليهودية. فكل عربي عادي طبيعي ميال في مثل هذا الظرف وامام ممارسات السياسة الاميركية، الى ان يعتبر ان اميركا كانت وما تزال وستبقى مستمرة في اعطاء اسرائيل أسوأ تفويض في اكمال دورها تحت عنوان الصهيونية، او حتى اليهودية كما اقترح بوش، في عمل كل الممكن في اضعاف الوجود الفلسطيني العربي. فالسلام يعني في نظر السياسة الدولية المنحازة، سلام اسرائيل ويهودها بخاصة، والدولة دولتهم، والوطن وطنهم، وهم اهل العصبية المشرعنة وواضعو الدستور والقوانين والمنتفعون بهما. ان اسرائيل لليهود، صهاينة وغير صهاينة، كما للعرب دولهم في الداخل الخارج ايضاً، بينما ليس للاسرائيليين الا اسرائيل!.