في مساء الثالث من كانون الثاني يناير، عبرت أرتال من الدبابات الإسرائيلية، مدعومة بالمروحيات العسكرية، السياج الحدودي لقطاع غزة على خمسة محاور، لتبدأ المرحلة البرية من عملية "صب الرصاص"، التي أطلقتها إسرائيل في السابع والعشرين من كانون الأول ديسمبر 2008.وقد شاركت في العملية ثلاث كتائب، وهو ما يعادل ثلاثين ألف جندي. ومن بين الحشود التي زج بها قوات نخبة من ألوية "غولاني" و"أجوز" و "رجلانيم".وقال الجيش الإسرائيلي إن "قوات ضخمة" من المشاة والدبابات والمهندسين والمدفعية والمخابرات تعمل في كافة أنحاء القطاع، وتدعمها طائرات وسفن حربية قبالة الساحل. وقالت إسرائيل إن هذه العملية تمثل مرحلة أولى من "خطة متكاملة"، قد تتسع لإدخال فرق من قوات الاحتياط واحتلال كامل قطاع غزة. وفي الخامس من كانون الثاني يناير، دخلت الحرب البرية مرحلتها الثانية، التي قضت بتوسيع رقعة العمليات،والتقدم باتجاه المناطق المأهولة بالسكان في شمالي القطاع.وفي بداية إطلاقها للعملية البرية، أقدمت القوات الإسرائيلية على قطع التيار الكهربائي عن قطاع غزة، ونفذت قصفاً مدفعياً عنيفاً، دخلت بعده الدبابات إلى أطراف القطاع، تتقدمها الجرافات.وقد تم ذلك كله تحت غطاء جوي كثيف. وحسب التقارير الواردة من ساحة المعركة، فقد اعتمد الجيش الإسرائيلي في حملته البرية على دبابات "ميركافا - 3"، بصفة أساسية. وليس واضحاً بعد لماذا تجنب الإسرائيليون في هذه المعركة استخدام الجيل الأخير من هذه الدبابة، وهو "ميركافا - 4"، التي اعتمدت في حرب لبنان في صيف العام 2006.ويبقى الأمر الثابت هو أن الجيش الإسرائيلي قد زج بكم كبير من آلة الحرب في قطاع غزة. علماً بأن إجمالي مساحة القطاع هي 358كيلومترا مربعاً، ويسكن فيه مليون وخمسمائة ألف نسمة. وإضافة لاعتمادها على الدبابات والآليات محلية الصنع، تستخدم القوات الإسرائيلية عربات أميركية مصفحة، مثل (M-577A2) و(M-113A1/A2). وتستخدم مروحيات أميركية من فئات (AH-1E/Bell-209) و(Chechnya-53D Stallion) و(UH-60 Blackhawk) و(AH-64 Apache)، كما أن أسلحة المدفعية الإسرائيلية هي أسلحة أميركية، وخاصة صواريخ (AMRAAM) و(AIM-120B) و(AIM-95)، وحتى قاذفة الصواريخ المتعددة(MLRS 227). وفي بدايات توغلها البري، دخلت القوات الإسرائيلية قطاع غزة من خمسة محاور: الأول محور بيت لاهيا، شمال غرب غزة، وهو قريب من المستوطنات.والثاني محور بيت حانون، الذي يقابل مستوطنة سديروت. وهو أسهل المحاور على هذه القوات، لكونه ذا طبيعة سهلية. والثالث محور جباليا. وهو الأصعب، لشدة كثافته السكانية، وتعاظم حضور المقاومة الفلسطينية فيه. والرابع محور حي الزيتون. وهو ذو طبيعة زراعية، وقد تمكنت القوات الإسرائيلية من خلاله من شطر القطاع إلى نصفين. والخامس محور رفح. وقد هدفت القوات الإسرائيلية من التقدم باتجاهه إلى السيطرة على المناطق التي تكثر فيها الأنفاق بين مصر وقطاع غزة، وكذلك السيطرة على منطقة المعبر، وفصل القطاع عن الأراضي المصرية. وكان الجيش الإسرائيلي قد تبنى في صيف العام 2008نظرية جديدة ترتكز على تدعيم ألوية المشاة والقوات البرية، ومنحها الأفضلية في واردات السلاح. وقد جاء هذا التحوّل على خلفية هزيمة حرب لبنان صيف العام 2006.وكذلك، غياب رئيس الأركان السابق دان حالوتس، الذي كان، بوصفه قائداً سابقاً لسلاح الجو، يصر على تفضيل القوات الجوية على مستوى التجهيزات العسكرية.ووجد الاهتمام بالقوات البرية ترجمته الفعلية في قيام وزير الدفاع، إيهود براك، بالطلب من الحكومة الموافقة على تشكيل فرقتين مدرعتين جديدتين، تضمان قوات الاحتياط. وكان قد تم في حرب لبنان الأخيرة تدمير فرقة مدرعات واحدة على الأقل، من مجموع الفرق السبع التي يضمها الجيش الإسرائيلي. وفي مقابلة نشرتها له صحيفة "كراسنايا زفيزدا"، الصادرة في موسكو في 13أيلول سبتمبر 2008، رأى الجنرال فلاديمير بولديريف، قائد القوات البرية الروسية، أن الجيش الإسرائيلي فقد نحو 60دبابة خلال حرب لبنان الأخيرة "لأن الدبابات الإسرائيلية افتقرت إلى ما يحميها من الصواريخ المضادة للدروع وقذائف آر بي جي".وأطاحت هذه الخسائر بإستراتيجية "بليتزكريغ" (Blitzkrieg Strategy ) التي انتهجتها هيئة الأركان الإسرائيلية، والتي تقوم على تحريك سلاح الجو والدبابات والمدفعية بشكل مكثف في وقت واحد. بيد أن إسرائيل قد عادت لتطبيق الاستراتيجية ذاتها في حربها على غزة. وعلى الرغم من ذلك، فإن المعركة على الأرض لا تسير وفق ما خطط لها على أجهزة الحاسوب في تل أبيب، فهناك تحديات كبيرة ظهرت أمام القوات المهاجمة منذ الساعات الأولى لتوغلها في غزة. وعلى نحو كلاسيكي معتاد، توغلت الدبابات الإسرائيلية في مناطق القطاع مدعومة بالمروحيات، التي بقيت معها على اتّصال مباشر لتقديم التغطية الجوية. بيد أن هذا التكتيك سرعان ما واجه اختباراً لم يكن في الحسبان، حيث ظهرت لدى المقاومة الفلسطينية مضادات جوية قادرة على التصدي للطائرات المروحية. وهذا ما حدث على نحو مؤكد، في مساء الخامس من كانون الثاني يناير، عندما أصاب المقاومون مروحية عسكرية في مخيم جباليا. ولعل في هذا التطوّر استعادة لبعض ما جرى في حرب لبنان الأخيرة، حيث تمكنت المضادات الجوية من تحييد المروحيات الإسرائيلية، الأمر الذي أثر لاحقاً على محاولات التوغل البري. ففي تلك الحرب، كان طاقم الدبابة الإسرائيلية يكتفي برؤية محدودة. لا تسمح له بكشف ما يحدث على يمينه أو يساره أو خلفه. وبطبيعة الحال، قد لا تُحيّد المقاومة الفلسطينية سلاح المروحيات الإسرائيلي على نحو تام، وذلك جراء تباين الظروف الجغرافية للمعركة. بيد أن ما حدث يشير إلى أن هذه المقاومة تمكنت من خلخلة التغطية الجوية لسلاح الدبابات. وحتى مع افتراض تماسك هذه التغطية، فإن أداء المقاومة الفلسطينية ظل أداءً متميزاً، فالمقاومون في غزة لا يحتاجون غالباً إلى إطلاق النار على مقدمة دبابات ميركافا المحصنة، بل يعمدون لاستهداف جوانب الدبابة أو مؤخّرتها أو الزناجير. إنهم يدركون جيداً أن أية مصفحة يوجد فيها مواضع يمكن اختراقها. هذا علماً بأن أحد الأسلحة الرئيسية التي استخدمت في مواجهة دبابات ميركافا عام 2006قد تمثل في قذائف (RPG-29 Vampirs) ذات الشحنة المزدوجة.ووفقاً لبعض التقارير، فإن هذه القذائف متوفرة حالياً لدى المقاومة الفلسطينية، وربما بدأت فعلاً في استخدامها.وكانت هذه القذائف قد صنعت في الاتحاد السوفياتي، في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، وهي تستخدم في مختلف دول الكتلة الاشتراكية السابقة، كما يجري تصنيعها حالياً في بعض هذه الدول. وفي السياق ذاته، قد تشهد معركة غزة مفاجآت، من قبيل استخدام المقاومة الفلسطينية لصواريخ (Cornet)،التي تمكنت بدورها، في صيف العام 2006، من اختراق المدرعات وتدمير الميركافا - 4 وقد تمثلت بعض تكتيكات المقاومة الفلسطينية، من جهة أخرى، في زرع الألغام الأرضية والشراك الخداعية، في مناطق أساسية من قطاع غزة، بهدف التصدي للدروع والمشاة. وقد نجح هذا التكتيك منذ اليوم الأول للعملية البرية، حيث وقعت مدرعة إسرائيلية ضحية شراك، فجرت محاصرتها وإصابة طاقمها إصابات مؤكدة. والحقيقة، إن الجيش الإسرائيلي قد واجه كثافة في العبوات الناسفة والكمائن والشراك الخداعية. هذا فضلاً عن كثرة الأنفاق التي يستخدمها المقاومون الفلسطينيون للانسحاب من المواقع التي تدخلها القوات الإسرائيلية، ليظهروا فيها مجدداً. إلى ذلك، يمكن الاستنتاج من التقارير القادمة من المعركة بأن المقاومين الفلسطينيين قد اعتمدوا أسلوب الاشتباك المباشر مع القوات الإسرائيلية، وهذا ما كشفه تحديداً الاشتباك الطويل الذي دار في مساء الخامس من كانون الثاني يناير، في جبل الكاشف، بين وحدة إسرائيلية، وقوة مشتركة من حماس والجهاد الإسلامي، والذي أكدت فيه المقاومة مقتل عدداً من الجنود الإسرائيليين. كذلك، فإن دخول المقاومة الفلسطينية، في وقت متزامن، في اشتباكات طويلة مع القوات الإسرائيلية في مناطق مختلفة من القطاع، يشير إلى اعتماد هذه المقاومة لما يُعرف بنظام القتال المتحرك، الذي يقوم على مبدأ "لكل منطقة مقاتلوها". والذي لا تجدي معه استراتيجية تقطيع الأوصال، التي طبقها الجيش الإسرائيلي بهدف تعطيل منظومة القيادة والسيطرة لدى المقاومة، وقطع إمدادات السلاح والذخيرة عنها. وحيث أن غزة تتصف بكونها إحدى أكثر مناطق العالم من حيث كثافتها السكانية، فإن القوات الإسرائيلية باتت اليوم أمام حرب شوارع ضارية، تقودها مقاومة تعرف أرضها وتضاريسها. كما اعترفت إسرائيل انها تواجه خطر الانتحاريين في مناطق توغلها داخل القطاع. وربما تستطيع القوات الإسرائيلية احتلال موقع هناك أو هناك، إلا أنه لن يتسنى لها في مطلق الأحوال فرض سيطرتها على غزة، حتى مع افتراض استمرار الحرب لأشهر وليس أسابيع. والأرجح، أن إسرائيل بدأت تدرك مبكراً فداحة الورطة التي وضعت نفسها فيها، على خلفية رغبة جامحة في استعادة هيبة الردع. لقد بالغ جنرالات إسرائيل كثيراً في الأثر المتوقع من التدريبات المكثفة التي أجرتها قواتهم على مدار عامين منذ انتهاء حرب لبنان. وأخفقت إسرائيل في الوقت نفسه في توّقع إمكانيات المقاومة الفلسطينية، وخاصة لجهة قدراتها التسليحية المتطوّرة، واعتمادها تكتيكات قتالية تشير إلى قدر كبير من الخبرة والمهارة. لقد دخلت إسرائيل في عملية عسكرية لا أفق لها.ولا شيء يضمن لها اليوم تحقيق أي مكسب على الأرض. وكل ما حدث هو مزيد من تآكل هيبة الردع الإسرائيلي.وكما قال المحلل في صحيفة هآرتس، ألوف بن، فإن "الرصاص المصبوب قد علق في الحلق". إنها النتيجة التي لم تتوقعها إسرائيل يوم أطلقت عملية "الرصاص المصبوب".