استكمالا لما سبق الحديث عنه في هذه الزاوية عن نمط الشخصية المضللة، يأتي الحديث اليوم عن دوافع تكوين هذا النمط من الشخصيات وعن طبيعة الروح الدفاعية التي تتلبس بها. ويمكن ملاحظة أن تربية الطفل مع عائلة عنيفة أو مع أحد لايغفر للأطفال أخطاءهم من أسباب ظهور النزعة التبريرية السريعة والجاهزة التي تتسم بها بعض الشخصيات، ولكن حتى العائلة المتسامحة يمكن أن ينشأ بعض أفرادها معززًا بهذه الدفاعات النفسية إذا وضع في موضع المتفوق أو المتميز الذي يتوقّع منه دائمًا أن يكون على صواب، فينشأ وهو متلبّس بشخصية افتراضية يحاول دائمًا تقمّصها لكي يبقى في الصدارة. وهذه الشخصية الافتراضية هي التي تجعله أسيرًا لنمطها ولا يستطيع التحرك بعيدًا عنها. فهو في الواقع ليس حرًا في تصرفاته وليس حرًا في تفكيره. ويتعلق بالروح الدفاعية التي بنيت عليها هذه الشخصية جانب أخلاقي مرتبط بدوره بالجانب النفسي الذي هيأ رؤية الشخصية لكي تتعامل مع افتراضات سلبية. فالروح الدفاعية تنشأ بسبب افتراض وجود اتهام، ويأتي الدفاع من منطلق ذلك الاتهام المفترض. ويلاحظ أن الروح الدفاعية تؤدي بالمرء إلى التعامل مع أعداء افتراضيين، ويسير الدفاع وفق منظور حربي، ولهذا نجد أن صاحب الروح التبريرية رغم مناداته النظرية بالإنسانية وبالضمير الحي إلا أنه يقع في الظلم من خلال نسبته الخطأ لشخص أو جهة أو معطى آخر بطريقة غير صحيحة. ولو تأملنا الأسلوب الذي يتبعه في إلصاق التهمة بغيره أو ينزعها من نفسه وممن يهوى، لوجدناه يستعين بالتأويل لكي يقتنص أي وسيلة تساعده على إيجاد موضع للنقص والخطأ أو محو ذلك الموضع. فمثلا، حينما ترتطم مركبته بالسيارة التي أمامه في زحام أمام إشارة، فإنه يحمّل سائق السيارة بأنه توقّف فجأة أو توقف حيث كان ينبغي له السير أو أنه لم يستخدم المرآة الخلفية فيتقدّم حينما اقتربت منه مركبته، ويبدأ يجادل في تحميل السائق الذي أمامه مسؤولية الخطأ، ولكن الواقع أنه نفسه كان مشغولا بكتابة رسالة جوال أثناء القيادة ولم يكن نظره موجّهًا نحو الطريق فارتطم بالسيارة التي أمامه دون أن يدري. هنا يتضح لنا مقدار الظلم الذي تمارسه الشخصيات المتلبسة بروح الدفاع عن الذات، وخاصة أنه جاهز للرد فيما لو سئل: ولماذا لم تنظر أمامك فتتوقف؟ ليقول إن حركة السيارات متقطعة بسبب الزحام وأنه كان يسير وفق هذا النظام الذي تتحرك عليه بقية السيارات، وأنه لم يكن ليتوقف فترة طويلة لكي لايعطل السير ويجلب الفوضى من خلال دخول سيارات من الفراغات التي يتركها فيما لو توقف..إلخ. ويستخدم المبالغة في تصوير الضرر الذي لحق به بأن أعماله تعطلت وصحته تدهورت لكي يعطي الطرف الآخر انطباعًا لتعويضه عن طريق الاعتذار. هذا النمط هو من الشخصيات المجادلة دون ملل، ولكنه جدل مضلل إذا أخذناه وفق منطق الشخصية، ولكنه في بعض الحالات يقنع المتعجلين في الوصول إلى حكم أو ممن لايستسيغون إطالة المجادلة الدائرية. ويوضح الموقف السابق مقدار الجهد العقلي المبذول في سبيل الدفاع عن خطأ بسيط كان يمكن تجاوزه بإشارة باليد وابتسامه للسائق الذي أمامه وربما ينتهي الأمر إذا كان الارتطام خفيفًا. ولكن القضية عند هذا النمط من الشخصيات ليس الجانب المادي ولكنه يتعلق في أن الاعتراف بالخطأ يتضمن إدانة له بالإهمال أو عدم التركيز، وهو مايخشاه لأن هذه التهمة تقلل من قيمته التي بنيت وفق شخصية افتراضية قديمة. وبسبب أنانية هذا النمط فإن موقف هذه الشخصية يتعزز كلما كسب جولة من التبرير، ولكن هذه الشخصية تفشل في الغالب إذا قام صاحبها بمفاوضات مع طرف أو أطراف أخرى لأنه لا يقبل التنازل ويريد تحقيق القدر الأعلى من المكاسب. وهو لايفضل المبادرات في الإصلاح أو التفاهم لأن المبادرة في حد ذاتها تتضمن نوعًا من التنازل الذي لايتناسب مع تكوينه النفسي؛ ولو كان هذا النمط رجلا وغضبت منه زوجته لأي سبب فخرجت من منزله إلى بيت أهلها فإنه لن يذهب لاسترضائها حتى لو انتهى الأمر بالطلاق. وبالمناسبة، فإنه لو قرر في لحظة من اللحظات الاعتراف بأنه على خطأ لكي يخرج من مأزق معين، فإنه لن يتراجع عن موقفه بسهولة. ويفضّل أن يخرج من الموقف دون أن يشعر بالخسارة. ولهذا فإنه بحاجة للمساعدة في التغلب على نفسه من خلال تنحية الشخصية الافتراضية التي تتلبسه، كأن يقال له: "من أجل الأطفال وافق"، أو "من أجل الزملاء، افعل كذا"، أو "أنت من القلائل الذين يغلبون المصلحة، فياليتك تفعل كذا"، أو "الجميع معترف بفضلك، فلعلك تفعل.."، إلخ. فهذه الأساليب تحفظ له التمتع بمميزات شخصيته الوهمية المفترضة على اعتبار أنه لم يقع في خطأ وإنما تنازل ووافق على موقف يتضمن تسوية بين الأطراف. ورغم شيوع هذا النمط من الشخصيات عند الأكاديميين وفئة المتعلمين إلا أن له رصيدًا في الحياة الشعبية التي نلمس آثارها من خلال الأمثال والحكم والعبارات الشائعة، ومن ذلك قولهم: "قابل الصوت بالصوت تسلم"، ويفهم منه في الدلالة على جدل هذه الشخصية أنك يجب أن تكون جاهزًا للرد الصوتي -بغض النظر عن الحجة- لكي تنجح في التخلص من الموقف. وهناك مثل آخر يقول: "اضربه بالموت يرضى بالكفن"، من خلال المبالغة في وضع تصوّرات مفترضة وغير واقعية لإيهام الطرف الآخر للرضا بما هو أقل، وهو نوع من ممارسة الظلم على الغير الذي تتسم به هذه الشخصية.