رغم الاضاءة الاعلامية الواسعة بل والعالمية على مؤتمر حوار الأديان الذي انعقد في نيويورك بمبادرة من الملك عبد الله بن عبد العزيز، فان النتائج الهامة التي سجلها المؤتمر بشكل واضح لمصلحة الوزن العربي والاسلامي في العالم وتكامل خبراته في وعي الأمة وقد تجاوزت بكثير تعليقات الأوساط الدولية حول أهمية المبادرة والحوارات. وقد جاءت لتلفت أنظار العالم المتقدم على ما يمكن القيام به من تغييرات هامة لمصلحة العالم بالتجاوب مع الحوارات على الطريقة المقترحة من خادم الحرمين. لقد برز هذا الحدث "حوار الاديان" في نيويورك في فترة متقاربة مع انتخابات الرئاسة الأميركية ونجاح باراك أوباما في انتخابات الرئاسة، ولعلنا لا نفارق الحقيقة اذا قلنا إن مؤتمر حوار الأديان أخذ من اهتمام النخب العالمية ما أخذته انتخابات الرئاسة الأميركية في نظر نخب من المعنيين. فمهما يكن الصراع على الرئاسة في واشنطن ملهبا خيال الأميركيين وغيرهم، فان موضوع حوار الأديان والحضارات ظلّ الطاغي عند أركان من المؤسسة الأميركية ومعظم المؤسسات الحاكمة في أكثر من قارة والتي توجّه سياسات الدول في علاقاتها مع نفسها ومعتقدات شعوبها ومع الدائم والمستمر في تراث وتطور الدول والمجتمعات بعامة. فالاشخاص ولو ذوو الألق الخاص يزولون اما الهموم الكبرى المتعلقة بالأديان والمعتقدات والحضارات فتبقى موجهة للعقول والقلوب والمعتقدات وعليها تقوم على المدى الطويل الدول والمجتمعات ومن ذلك ديمومة الفاعلية للموضوع الذي طرحه ملك السعودية بالدعوة الى حوار الأديان. جاءت دعوة عاهل المملكة العربية السعودية الى المؤتمر وما رافقها من اهتمام دولي واسع والنتائج التي سجلتها تجعل من المناسبة واحدة من المؤشرات المميزة الدّالة على ما بلغه الوزن السياسي العربي والاسلامي على الساحة الدولية وترابط وقائع التطور البشري فقد مضى الزمن الذي كان فيه العرب مجرد متلقين على الساحة الدولية أو مشاركين محدودي الأثر في أسرة أصحاب القرار. طبعا ما كان أحد يشك في ثقل الوزن العربي داخل الدول الاسلامية أو دول المنطقة في مواضيع معينة بالغة الأهمية أحيانا ولكن أن يبرز العرب بهذا الحجم القيادي في موضوع حوار الأديان بالذات الذي يخصّ العالم القوي وغير القوي فهذا موقع صدارة وفعل ما كان مرة متاحا بمثل هذا الحجم لجهة عربية أو اسلامية في مسار يتعلق بالتحولات المصيرية التي تخص العالم ككل وليس العرب أو مظلومي هذا العالم دون غيرهم. انه حدث يسجّل لصاحبه وللأمّة وللمملكة العربية السعودية في مدى الأثر العالمي المؤسساتي الذي بلغته المشاركة العربية على الساحة الدولية في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز. انشغلت المملكة العربية السعودية تقليديا وهي منشغلة حاليا في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز كما لم تنشغل أي دولة عربية أو غير عربية بالحوار بين الأديان، وذلك من موقعها الاسلامي أولا والعربي ثانيا فقد نزل القرآن على النبي العربي محمد مصدقا ما قبله من كتب الدينين السماويين اليهودية والمسيحية مناديا بالمشترك من المبادىء والقيم الجامعة. واذا كانت الصهيونية قد عملت وما تزال على مصادرة اليهودية، وحاول الاستعمار الأوروبي أن يدّعي لنفسه احتكار القيم المسيحية فان العروبة لم تجنح هذه المرة ولا قبلها بمحاولة اعطاء الاسلام غير حقيقته الدائمة كدعوة للقيم الروحية والمدنية المجردة وحقوق الشعوب في السيادة والتحرر. من هنا جاءت أحقية العاهل السعودي عبد الله بن عبد العزيز غير المنازعة في سبق الجميع كما رأينا في اجتماعات الولاياتالمتحدة الى طرح موضوع الحوار بين الأديان مستقويا الى جانب الاسلام بتاريخ عروبة واسعة الصدر عرفت دائما كيف لا تجعل من القومية أو الجنسية مثل غيرها وسيلة عدوان على آخرين فالعربي الكامل والمسلم الكامل أعطيا دائما في أرض العرب وخارجها الأدلة على أن ما بين الاثنين أي العروبة والاسلام هو تكامل لا تناقض ولا تناحر بروح من الفاشية العمياء التي عرفتها أوروبا وغيرها. في الولاياتالمتحدة وفي المؤتمر هذا بالذات لحوار الاديان أطل الملك عبد الله كمرجعية عليا تصالحت فيها الاسلامية الدينية والعروبة المدنية. ولطالما برزت أيضا مؤشرات على الظاهرة نفسها منذ زمن بعيد عبّر عنها هنا وهناك أشخاص ومفكرون وزعماء من كل الأديان والأصناف، فمكرم عبيد السياسي الوفدي المصري الشهير كان يقول بسماحة مشهودة:"أنا مسيحي دينا ومسلم وطنا". ولم يكن وحده بين أقباط مصر ومسيحيي العرب من يشعر هذا الشعور وان لم يكن الجميع قد عبّر عن هذه الفكرة بهذه الطريقة بالذات . بالعودة الى مؤتمر حوار الأديان في الولاياتالمتحدة لا يمكن وصفه الا بالقول انه كان مؤتمرا لتقارب العرب أيضا وأولا وذلك بالمعنيين، معنى علاقة الآخرين مع العرب ككل ومعنى علاقة العرب من مختلف المذاهب والاديان فيما بينهم ففي الحالتين كان وما يزال وسيكون تأثر محتوم بالمبادرة التاريخية التي قام بها العاهل السعودي، وهذا واضح في كل مكان عربي فيه مسلم ومسيحي معا. اما روحية الحدث التاريخي الذي انطوت عليه دعوة حوار الأديان فقد تمثلت باجماع المشاركين على التمسك في خيار الحوار والتسامح واحترام مختلف الثقافات والاديان والتأكيد على رفضهم استعمال الدين لتبرير قتل ابرياء والقيام باعمال ارهابية واعمال عنف وقهر هي في تناقض مباشر مع دعوة جميع الاديان الى السلام والعدالة والمساواة. لقد كانت نقطة الاجماع بين المؤتمرين هي تلك الملتقية حول دعم دعوة الملك عبدالله باسم العرب والمسلمين للعالم اجمع بأن الاختلاف لا ينبغي أن يؤدي إلى النزاع والصراع، كون المآسي التي مرت في تاريخ البشر لم تكن بسبب الأديان، ولكن بسبب التطرف الذي ابتلي به بعض اتباع كل دين سماوي، وكل عقيدة سياسية. فالبشرية اليوم تعاني، كما قال الملك عبدالله، من ضياع القيم والتباس المفاهيم، وتمر بفترة حرجة تشهد بالرغم من كل التقدم العلمي تفشي الجرائم، وتنامي الإرهاب وتفكك الأسرة، وانتهاك المخدرات لعقول الشباب، واستغلال الأقوياء للفقراء، والنزعات العنصرية البغيضة، وهذه كلها نتائج للفراغ الروحي الذي يعاني منه الناس بعد أن نسوا الله فأنساهم أنفسهم، ولا مخرج لنا إلا بالالتقاء على كلمة سواء، عبر الحوار بين الأديان والحضارات. ولن نقع في ما حصل في الماضي اذ فشلت معظم الحوارات لأنها تحولت إلى تراشق يركز على الفوارق ويضخمها، وهذا منهج عقيم يزيد التوترات ولا يخفف من حدتها، أو لأنها حاولت صهر الأديان والمذاهب بحجة التقريب بينها وهذا بدوره مجهود عقيم فأصحاب كل دين مقتنعون بعقيدتهم ولا يقبلون عنها بديلاً، ونجاح هذا المؤتمر يكون كما في دعوة الملك عبدالله بالتوجه إلى القواسم المشتركة التي تجمع بيننا، وهي الإيمان العميق بالله والمبادئ النبيلة والأخلاق العالية التي تمثل جوهر الديانات. في المكان الأكثر تقدما علميا وماديا في العالم المسمى بالعالم الجديد، حرص الملك عبد الله، على الدعوة لأن يكون الحوار مناصرة للإيمان في وجه الإلحاد، والفضيلة في مواجهة الرذيلة، والعدالة في مواجهة الظلم، والسلام في مواجهة الصراعات والحروب، والأخوة البشرية في مواجهة العنصرية. واذا كان هذا المؤتمر قد بدا للجميع بأنّه كان الأنجح بالنسبة لكل ما سبقه فهذا لأن الملك عبد الله راعي الحوار انطلق من الحقائق وتوجّه الى الضمائر داعيا أصحاب القرار والشعوب الى صحوة وتكاتف في وجه التحديات العالمية الكبرى ولذلك وبسبب الاجماع على انطلاقة كونية طال انتظارها، احتل المؤتمر مكانا خاصا من زوايا عديدة اهمها التصارح بين الجميع وانتشار الشعور عند الأطراف الدوليين والنخب القادرة بأن الأقوياء والقادرين وأصحاب الطاقات هم أول المتضررين من تأخر الخطوات السديدة عن المضي في الطريق السليم من أجل مصلحة الجميع لا فرق بين قوي وأقل قوة وثري وأقل ثراء. لقد كان نجاح هذا المؤتمر ناتجا عن أن أغنياء العالم واقوياءه خاطبوا هذه المرة أنفسهم لا الآخرين فقط وكانوا صرحاء مع ذاتهم قبلهم مع غيرهم وذلك من موقع الشعور العميق بأن التأخر في الصدق مع الذات يضعف القدرة على الانجاز فهو نوع من الواقعية المثالية تسلح بها هذه المرة أقوياء العالم وأغنياؤه في القارة الأكثر افادة من تقدم العقل البشري في تحالف بين العقل والضمير كان وما زال أكثر فأكثر مصلحة مشتركة للجميع. وشرف للشرق هذه المرة أيضا أن تكون قد خرجت منه الأفكار الأكثر غيرية والدعوات الأصرح في تذكير أصحاب الأديان بأن الصادق هو من يصدق مع نفسه والقادر هو القادر على ذاته. وذلك هو الطريق الى فتح العقول على العقول والقلوب على القلوب وصولا الى مرجعية سلام وتعاضد وحوار بين الاديان يفتح طرقا جديدة بين الامم والشعوب.