ما أصعب الحياة حينما يتبدل الإحساس بها من أمل وأحلام وقوة، إلى يأس وضعف وإنكسار.. وما أقساها عندما تسلب وتغوي عقول البعض ذكراً كان أو أثنى، مجنياً عليه أو جانياً إلى دوامة المجهول وشبح يسمى نقص المناعة المكتسب (الإيدز).. ذلك الكابوس الذي لا يرحم.. ويقتحم كل الظروف الاجتماعية والنفسية والمادية؛ ذلك المرض الفتاك الذي تعددت أسبابه والنتيجة واحدة !!.. "الرياض" تلامس في هذا التحقيق معاناة مرضى الإيدز بمناسبة اليوم العالمي للإيدز الذي يصاف غداً الاثنين، وتتعرف عن قرب على خفايا مظلمة لقصصهم الواقعية.. الإدمان ونقص المناعة (س، م) هي إحدى المصابات بعدوى فيروس نقص المناعة المكتسب، سعودية الجنسية.. مطلقة تبلغ من العمر 40عاماً، إهمالها لمظهرها وهدوئها المتمثل بالانطوائية والعدوانية يجعل كل من رآها يجزم على سوء ما تعانيه، وألم ما حل بها قبل أن يعلم أحد بقصتها التي أدت بها إلى هذا الحال.. وبعد السؤال والاستفسار اتضح ل "الرياض" أن مشكلة هذه السيدة ليست فقط في مرض الإيدز وحده الذي بدأ ينهش جسدها ويغير حالها وإنما للمعاناة وجه اضافي آخر.. لقد دفعها الإحباط واليأس إلى الإدمان على المخدرات وخاصة مادة الحشيش والحبوب المخدرة منذ أكثر من خمسة عشر عاماً.. السيدة (س، م) عاشت رحلة طويلة مع الإدمان قبل الوقوع في قبضة مرض (الإيدز) وتفاقم المشكلتين أدى إلى إصابتها بالتهاب الكبد الفيروسي (C)HCV وبحالة ربو مزمن..فزادت الأمور سوءاً وأصبحت لا تميز أي شكوى صحية جديدة في جسدها، أما بداية إصابتها بمرض نقص المناعة فلم تستدل عليه بسهولة نتيجة معاناتها القديمة من عدة مشاكل صحية مما فاقم المأساة لاسيما وهي المعتادة على بقائها بالمشفى عدة أيام في أوقات متقاربة.... قضت المريضة سنوات عمرها منغمسة بعلاقات جنسية غير مشروعة، وعندما عزمت على ترك هذه العلاقات إلى الماضي لتبدأ حياة جديدة خالية من المحرمات، فاجأها المرض بوجوده وتشبثه بجسدها المنهك.. فلم تكن تعلم أن علاقاتها الخاطئة داخل وخارج المملكة لن تنتهي بمجرد إتخاذ القرار وحسب.. وقد يكون القرار أتى متأخراً..!! كانت الفاجعة عظيمة عند علمها بإصابتها بالمرض وبقيت ساعات طويلة تحاول استجماع شجاعتها أمام هذا الوحش الكاسر.. بعدها انتابها شعور بأنها مخزن لقاذورات الحياة المحيطة بجسدها من إدمان وأمراض هي المتسببة بوجودها !! إنها تعيش في قلق وخوف دائم وتنظر إلى الحياة بمنظار أسود بائس.. توجهت إلى الله بالتوبة وعرفت أن لا كاشف لها سواه فلا أهل ولا أصدقاء ولا أحباب يعرفون مصيبتها حتى علاجاتها تأخذه سراً.. التفتت حولها فلم تجد سوى أصحاب السوء فأدركت أنها أخطأت حتى في اختيار رفيقاتها.. وتعيش حياتها الباقية في صلاة وعبادة وتوبة تحمد الله أنها أدركتها قبل أن يتوفاها الله.. وتخضع حالياً لخطة علاجية للتوقف عن التعاطي والشفاء من تلك السموم، وإلى برنامج كامل في العلاج النفسي التقويمي والدوائي والاجتماعي ويقف بجانبها عدد من الاختصاصيات في العلاج والتأهيل وتستجدي الجميع بأهمية الابتعاد عن أصحاب السوء.. انعزالية وإحباط.. "لا أعاني من شيء، أنا بخير" هذه الجملة التي تتردد على لسان الشاب (ر، ع) 35سنة سعودي الجنسية - رغم معاناته منذ أكثر من ستة شهور من مرض نقص المناعة فضل الحياة منعزلاً بعيداً عن أسرته والمجتمع كله.. (ر،ع) شاب غير متزوج يحمل شهادة الثانوية العامة وموظف بأحد القطاعات الخاصة لم يكن يتخيل في أحد الأيام أن مصيره الإصابة بالمرض فهو على حد قوله شديد الحرص عند القيام بعلاقات غير شرعية، ولم يشتك يوماً من أي أعراض لهذا المرض بل ولم يكن يعلم ما أعراضه التي من الممكن أن تظهر عليه قبل سنوات من الإصابة.. ولم يكن يشكو من أي مرض آخر.. اكتشف المرض مصادفة حين أدخل عن طريق الأمن إلى أحد مستشفيات المنطقة الشرقية للتأكد من تعاطيه المخدر وكانت الصدمة الكبرى عندما كشف التحليل إصابته بمرض الإيدز، وتم إخباره بطبيعة المرض الذي يسكن داخله وكيفية الإصابة به وطريقة ذلك.. عندها تمنى الموت العاجل وفضله على بقائه نادماً محبطاً نتيجة إنغماسه بشهواته التي أسرعت به نحو الهلاك.. الشاب (ر، ع) يخضع حالياً للمتابعة العلاجية ويعيش تائباً متعبداً لا يفارق الاستغفار والدعاء.. الفحص قبل الزواج السيدة (م، ح) 24عاما جامعية متزوجة منذ ثلاث سنوات وتحمل داخل أحشائها جنيناً في شهره السادس، تعاني الأكتئاب الشديد وهي ضحية هذا المرض الذي نقله لها زوجها دون علمها وتقول إنها اكتشفت أنه مصاب بهذا المرض قبل زواجه منها وأن ذلك جعلها تحمل ذنب غيرها.. تقول إنها كانت تعيش مع زوجها حياة طيبة طوال فترة زواجهم التي لم تتعد الثلاث سنوات وفي إحدى مراجعاتها الخاصة بحملها الأول، أكتشف أنها تحمل المرض HIV نقص المناعة من خلال التحاليل المخبرية التي أجريت لها خلال متابعة الحمل، لم تستوعب السيدة (م،ح) ما سمعت أو ما اكتشفه الأطباء بدمها وتبدل شعورها في لحظة من إحساس السعادة لما تحمله في أحشائها إلى مأساة كبيرة سببها من كانت تعتقده أقرب الناس لها.. حينها حاولت الزوجة إقناع زوجها بعمل التحاليل اللازمة إلا أن الزوج رفض وبشدة ولكن من خلال متابعة الجهات المختصة تم التأكد من أنه متورط في علاقات جنسية غير شرعية لاسيما من خلال سفره الدائم خارج البلاد وتم إحضار الزوج بواسطة الطب الوقائي لاجراء الفحص ومتابعة حالته.. وبقي الهم الأكبر لدى هذه السيدة أن ينجو جنينها البريء من مرض الإيدز وسط متابعة علاجية مستمرة تحاول أقصى جهدها إنقاذ الجنين.. في ظل غضبها الدائم ورغبتها بالانتقام من زوجها، وتثني على الجهات المختصة في وضع تحاليل نقص المناعة ضمن فحوصات قبل الزواج رغم أنها حزينة أن تلك التحاليل لم تكن موجودة وقت زواجها، وغالبا ما تلتزم الصمت.. مهملة لمظهرها غير مبالية بتغذية جنينيها في حين عرف عنها قبل اكتشاف المرض العناية بمظهرها وحبها للناس واللقاءات الاجتماعية.. ولكنها تحمد الله أن لديها أسرة تخفف عنها مصيبتها وخاصة والدتها التي لا تتوقف عن الدعاء لابنتها بالشفاء مما أصابها بسبب زوجها.. وتخضع حالياً لبرنامج علاجي متكامل.. نقل الدم أحياناً كارثة.. (م، ن) أب أسرة متزوج منذ عشرين عاماً ولديه سبعة أطفال خمس بنات وولدان يبلغ من العمر 49عاماً يحمل شهادة المتوسطة موظف في قطاع حكومي، يعيش في دوامة المصابين بنقص المناعة.. جسم هزيل ونظرات حزينة وقوى منهكة.. منطو كثير الهواجس والبكاء، لا يعلم كيف ومتى أصيب بالمرض، فهو رجل محافظ ليس له علاقات مشبوهة.. إلا أن ظروفه شاءت بأن يكون مصاباً بأمراض أخرى كمرض الهيموفيليا الذي يحتاج معه لعملية نقل الدم بصورة دورية بين فترة وأخرى، ومن هنا اكتشف مرضه من خلال التحاليل التي تمت له في إحدى المرات.. ولم يصدق تشخيص أطبائه لوجود فيروس مرض الإيدز في دمه الأمر الذي جعله يعيش في خوف دائم من أن ينقل المرض لزوجته أو أبنائه.. كما يشرف على علاجه عدد من الأطباء وفي مقدمتهم طبيبه النفسي.. الجانب الاجتماعي والنفسي.. الأخصائي الاجتماعي نايف السبيعي يكشف ل "الرياض" كيفية الحد من خطورة الإيدز من خلال توعية المجتمع بالمحاضرات والندوات على جميع أفراد المجتمع بالطرائق والأسباب التي تساعد على انتقال المرض، مشيراً إلى أن مرضى نقص المناعة ينتابهم سلوك عدواني تجاه المجتمع ناتج من شعورهم واعتقادهم أن المشكلة التي يعانونها الآن يعد المجتمع جزءاً فيها فيحاولون الانتقام بطرق مختلفة.. وقال إن العلاج في مثل هذه الحالة يكون بإدخال المريض إلى المستشفي واكسابه مهارات في كيفية التعامل مع مرضه والظروف الخارجية، وأيضا في كيفية التعامل مع أفراد المجتمع بطريقة سليمة. وأضاف ان أبرز الأدوار التي يقوم بها الأخصائي الاجتماعي مع مريض "الإيدز" دعوته للعودة إلى الله سبحانه وتعالي، وحثه على القيام بأدواره كفرد فعال ايجابي داخل الأسرة والمجتمع الخارجي دون اللجوء للعنف، وحثه على عدم الزواج من امرأة غير مصابه بهذا المرض كي لا ينتقل المرض للزوجة ثم الأبناء، والعكس صحيح ينطبق على المرأة، وضرورة التبليغ لدي الجهات الرسمية بأنها مصاب بهذا المرض، وعند حدوث عارض صحي له ويستدعي تدخل جراحي أو مراجعة عيادة الأسنان يفترض عليه الإبلاغ عن حالته (الإصابة بمرض الإيدز) كي يتم التعامل مع الحالة على أفضل ما يرام، وحثه أيضاً على الانتظام على العلاج من خلال متابعة عيادة نقص المناعة. ويرجع الأخصائي السبيعي أسباب المرض إلى ضعف الوازع الديني، والسفر إلى الخارج، والعلاقات الجنسية غير الشرعية، والانتقال عن طريق الدم وعن طريق نقل الدم أو عيادات الأسنان، سواء بقصد أو غير قصد، الإدمان على المخدرات. وأشار إلى أن الحد من هذا المرض يتطلب بالرجوع إلى الله سبحانه وتعالى والبعد عن الطرق المشبوهة التي تؤدي إلى طريق الهلاك، كذلك توعية المجتمع بالأضرار التي يعاني منها مريض الإيدز والأسباب التي تؤدي للإصابة بهذا المرض). النزعة العدوانية ويبين ل "الرياض" الدكتور رياض الونين استشاري أول الطب النفسي بمستشفى الأمل للصحة النفسية بالدمام أن النزعة العدوانية للمصابين بمرض نقص المناعة هي نتيجة الصدمة التي يحدثها أكتشاف حمل فيروس الإيدز، مما تؤدي إلى حالة من القلق والتشويش والخوف من المستقبل، وربما إلى الإحباط لكن ردود الفعل هذه تخف بمرور الوقت بحيث يستعيد المصاب توازنه، لكن ردة الفعل قد تشتد عند البعض بسبب ردة فعل العائلة والمجتمع المحيط وبيئة العمل. وفي المجتمعات الشرقية حيث تكون "الوصمة" المرتبطة بهذا المرض أكثر حدة، وتأثر المصاب بنظرة من حوله إليه أعمق، فإن وجود دعم واحتواء من قبل الأسرة والمجتمع والمستشفى، للمصاب كفيل بتخفيف آثاره النفسية عليهم، وبالتالي منع أو تخفيف النظرة العدوانية أو السلبية لديهم، علماً بأن العامل الأهم بوجود تلك النظرة العدوانية أو عدم وجودها هو في الأساس نمط شخصية المريض قبل إصابته، فالشخص المضطرب الشخصية أو السريع التوتر والإحباط، وقليل الثقة بنفسه وبمن حوله، يكون أكثر عرضة للغضب الذي "يسقطه" هذا الشخص المصاب أما على نفسه أو على من حوله، خصوصاً إذا جابهته الأسرة بالرفض والإنكار وتخلت عنه، أو حصل تمييز ضده من قبل رب العمل، أوهجره أصدقائه، داعياً إلى أن تكون خطط العلاج والدعم للمرضى أكثر شمولاً، بحيث يتم توفير القدر الكافي من أسباب الحياة الطبيعية لهؤلاء، بما في ذلك العلاج النفسي عند الحاجة، والتدخل الاجتماعي وتعزيز الدعم الأسري للمريض إن أمكن، وتوفير المأوى والعمل عندما لايتوفر ذلك للمريض، وتزاد أهمية وجود برامج رعاية شاملة لهؤلاء المرضى.