جمعينا عرف زملاء التصق بهم لقب (أو نبز) سيئ منذ الطفولة .. وأتذكر صديقاً قديماً اشتهر ب (رأس البصلة) بسبب صغر رأسه وانسحابها للخلف .. والأسوأ من هذا أن معلم الفصل هو من أطلق عليه هذا اللقب قبل أن يشيع بين الجميع - وكان يوبخه دائماً بقوله "باين من رأسك أنك مغفل"!! ولكن الحقيقة هي أن المغفل الحقيقي كان معلمنا الفاضل الذي ربط بين البصلة وقشرتها .. فرغم أن العلاقة بين الذكاء وشكل الرأس تبدو بديهيه إلا أن (فراسة الجمجمة) تعد من أكثر الادعاءات العلمية خطأ ومغالطة عبر التاريخ .. وهي مغالطة تلاحظ في كافة الثقافات والحضارات العريقة ونلمس جذورها في الكتب والمخطوطات القديمة .. ففي تراثنا العربي مثلا صنف فخر الدين الرازي الناس بحسب جباههم وقال (في كتاب الفراسة) : ... ومن كانت جبهته صغيرة فهو جاهل ، ومن كانت مقطبة فهو غضوب ، ومن كانت منبسطة فهو مشاغب ، ومن كانت جبهته عظيمة فهو كسلان ... وقال ابن رشد وابن سينا - وقبل ذلك أفلاطون وسقراط - كلاماً مشابهاً بخصوص شكل الرأس وعلاقته بدرجات الذكاء وأمزجة البشر !! ... وفي القرن التاسع عشر اتخذت هذه الادعاءات صفتها العلمية على يد الطبيبين الألمانيين فرانز غال ويوهان كاسبر .. فقد افترضا امكانية التعرف على السمات الشخصية والعقلية من خلال تحديد تضاريس ونتوءات الجمجمة وما يقابلها من مراكز دماغية . فالموسيقي مثلاً يملك تضخماً في "مركز الموسيقى" بحيث يظهر على جمجمته نتوء يسمح باستيعابه .. ونفس الادعاء ألصق بالفنانين والشعراء وعلماء الرياضيات - بل وحتى المجرمين واللصوص وقطاع الطرق ! ومن ألمانيا انتشرت فراسة الدماغ الى بقية أوربا - وبلغت شأناً كبيراً في أمريكا في نهاية القرن التاسع عشر على يد الطبيبين والت ويتمان وإدجار بو .. ومن حسن الحظ أن فراسة الدماغ (كعلم) أصيبت بنكسة كبيرة في النصف الأول من القرن العشرين حين تبناها هتلر كوسيلة للتطهير العرقي .. فعلماء الأجناس في ألمانيا النازية وصلوا بها إلى حدود عنصرية تضمنت وضع مراتب خاصة بالسود والبيض والصفر والأعراق الهجينة .. ومن فرط إيمانهم بهذه العلاقة أرسى علماء مدرسة برسول (المتخصصة في علم الأجناس) قواعد لتحديد درجات الذكاء بين الشعوب المختلفة وتقسيم المهام والوظائف بناء على نتوءات الجمجمة بحيث أصبح هناك جنس الحمالين والموظفين والخدم والجنود ومربي المواشي !! ... ومع هذا خرج من ألمانيا - وفي نفس الوقت تقريبا - عالم يدعى واجنر أثبت عدم وجود فوارق واضحة بين دماغ العبقري والفلاح البسيط وان بروز الجمجمة من جهه معينة ليس له علاقة بالمواهب الذهنية .. كما أثبتت التجارب التي أجريت على الحيوانات عدم وجود علاقة بين وزن المخ ودرجة الذكاء التي يتمتع بها أي مخلوق - فدماغ الفيل مثلاً يزن ( 6) كيلوغرامات ودماغ الحوت ( 9) كيلوغرامات في حين لايتجاوز مخ الإنسان (1.4) كيلوغرام .. ومع هذا لا مجال للمقارنة بين ذكاء الإنسان وذكاء الحوت والفيل مثلاً ! ... باختصار شديد .. لا قيمة للفكرة القائلة بأن درجة الذكاء يحددها حجم الدماغ أو شكل الجمجمة (وفي المقابل ثبت وجود علاقة واضحة بين مستوى الذكاء وارتفاع نسبة التلافيف والتواصل العصبي على سطح الدماغ). ... وأنا شخصياً لا أشك في هذه الحقيقة مطلقاً كون "رأس البصلة" يرأس اليوم قسم الجيولوجيا في إحدى الجامعات السعودية !