في زمان جيلنا القديم، أيام سعيد فريحة وسليم اللوزي ومن عاصرهما من الكتاب، كان الموضوع السياسي يشغل اهتمام القارئ العربي، بل يندفع إلى ما فيه من معلومات أكثر مما تعنيه أي مقالات متخصصة عن تغذية رؤية كانت تنهك قواه، أو مشاكل اجتماعية تجذر مسببات تطاحن الفئات، مع أن المقالة السياسية عند بعض كتابها آنذاك لم تكن نظيفة على الإطلاق، بل كانت أشبه بحقنة سلسة تخدر مفاهيم القارئ وتحرف توجهات معلوماتية نحو ميادين الخطأ.. الآن.. على الأقل فئة المثقفين.. ومعظم أفكار الشباب.. لم تعد المقالة السياسية مغرية لهم، بل يتناولها القارئ بكثير من الحذر، محاولاً كشف ردميات تضليلها؛ لئلا تقوده إلى الخطأ.. هذا كلام عام.. لكن ما حدث في أمريكا مساء يوم الثلاثاء الماضي يستحق المراجعة والتأمل وتعميق موجهات ما حدث.. خطاب ماكين.. خطاب أوباما.. حياة السيدة ميشيل.. موقف الناخب الأمريكي.. هذه لوحات بارزة تفرض على المتأمل في أوضاع أمريكا من سكان الشرق الأوسط بخصوصية أكثر ومواطن العالم الثالث بصفة عامة.. تفرض عليه أن يرى جيداً كيف كانت توجهات الأحداث.. من صنع نهاية الفوز للديمقراطيين.. من حشد الجمهوريين في نسبة تصل إلى الثلث هم الذين كانوا يحتكرون النفوذ في مجلس الشيوخ ومجلس النواب والتأثير على الرأسماليات الكبرى.. المواطن.. أبيض أو أسود.. سيان.. فقير أو غني.. لا وجود لفوارق أو امتيازات وفرص خاصة.. هذا مؤشر حضاري للشارع من الصعب الوصول إليه في عالمنا الثالث.. هل تأملت خطاب ماكين الأخير بعد فوز أوباما؟.. لم يستعمل لغة الرجل المهزوم، ولكنه تحدث بلغة الرجل الأمريكي المنتصر عندما هنأ خصمه وأثنى عليه وأكد ضرورة وجود أمريكا موحدة.. الرئيس الجديد.. غير الغني.. وغير المعروف من هو جده الثاني لأبيه أو أمه.. أتى بجهد فردي بكل ما تعنيه الكلمة وكافح بنضالية فريدة تعتمد على رصانة المعرفة بالقانون والاستناد إلى تأهيل أعرق الجامعات الأمريكية.. هارفارد.. ومثله زوجته ليكون المناضل الشاب الذي رفض انتماءات اللون أو الثروة وأصر على جماعية الولاء لمجتمع موحد.. هل شاهدت شاشات الفضائيات الأمريكية.. كيف كانت حناجر السود صارخة بأقصى ما تستطيع وهي تعلن الفرح؟.. هل شاهدت جاكي جاكسون كيف كانت تتدفق الدموع من عينيه؟.. هذا الرجل من بقايا رفاق مارثن لوثر كنج الذي نادى بعدالة الحقوق للسود المهمشين وقد حاول الوصول إلى البيت الأبيض.. أوباما لم يصل به إلى السلطة عراقة انتماء امرأة أو ثروتها، فالسيدة ميشيل زوجته عاشت أقسى مراحل الفقر في طفولتها وشبابها إلى درجة أنها كانت وأسرتها يسكنون بشقة من غرفة واحدة في ركن الطعام كانت تقسمها بشرشف كي تنام في جانب وشقيقها في جانب آخر.. هذا هو المجد.. للقانون وليس للأشخاص فقط عندما يتمكنون من الوصول إلى ذروة طموحاتهم خصوصاً وأن صوت السود أو الملونين ليس وحده الذي أتى بالرئيس أوباما إلى الزعامة ولكن صوت البيض أيضاً فعل ذلك..