تحدثنا في الأسبوع الماضي عن الدور الكبير الذي تلعبه الرواية في تحوير النصوص بين اللهجات وضربنا عددا من الأمثلة وها نحن نكمل هذا الموضوع. النص بين الشاعر والراوي: فالشاعر حين ينظم القصيدة إنما ينظمها بلسانه الذي يمثل لهجته وربما دخل في قصيدته بعض الألفاظ من لهجة أخرى غير لهجته الأصلية عندما يتأثر الشاعر ببيئة أخرى غير بيئته الأصلية وهذا ما نلمسه في شعر بعض أهل نجد الذين انتقلوا للعيش في نواحي العراق أو الخليج كالشاعر ابن لعبون مثلا ، فالنص يخرج بلهجة الشاعر التي يتعاطاها في حياته العامة ويتداوله الرواة في محيط الشاعر بنفس اللهجة ولكنه عندما يتجاوز هذا المحيط يأخذ في البعد التدريجي عن النص الأصلي حتى يكون في آخر نقطة جغرافية يصل إليها أبعد ما يكون عن النص الأصلي فإذا فرض أن قال النص ينتمي لقبيلة في أقصى الجنوب فنصه حين يصل لوسط الجزيرة يكون قد فقد شيئاً من ألفاظ الشاعر الخاصة بلهجته فإذا اتجه شمالاً فقد بعضها الآخر فإذا تجاوز شمال الجزيرة إلى بادية الشام يكون قد فقد ثلثي ألفاظه الأصلية على الأقل بل أن النص يختلف ليس في لهجته فقط بل حتى في عدد أبياته وترتيبها وترتيب الأشطر فيها بل يمتد إلى القصة المرتبطة بالنص فربما حرفت وربما اختلقت قصة جديدة لهذا النص،والنص حين يرويه شخص ينتمي لغير قبيلة الشاعر ففي الغالب لابد أن يكون فيه قدر من الاختلاف يقل أو يكثر حسب قربه أو بعده الجغرافي من هذه القبيلة بحكم تعدد لهجات القبائل واختلافها في الجزيرة العربية. هذا الحال كان في مرحلة المشافهة وهي المرحلة السابقة لمرحلة التدوين فأما بعد مرحلة التدوين فقد أشرنا سابقا إلى كلام أبي عبدالرحمن بن عقيل في كون أغلب الدواوين الشعرية سابقاً كانت تطبع في الخليج العربي وكان جامعوها يدونون بعض ألفاظها بلهجتهم كقلب القاف جيماً مثلاً كما نراه عند الحاتم وغيره. فلاشك أن معرفة لهجة الشاعر تصحح كثيرا من أخطاء الرواة في نقل النصوص ومن ضمن النصوص التي اطلعت عليها في الأدب الشعبي في بلاد الشام قول الشاعر: يامعدي الفنجال حيث تسوقه خص القروم ثم انحر هل الساس صبه وعدله للي تلاعج بروقه للي يفكهن يوم الأرياق يباس 1وما هذان البيتان إلا جزء من قصيدة ابن رفاده التي قال فيها هي: يا مسوي الفنجال عجّل بسوقه خص الشيوخ وبد ناس على ناس خص الشجاع اللي تخلى طروقه فكاك ربعه يوم الارياق يباس والثاني اللي كل عد يذوقه فوايهه تشهر جديد ودراس والثالث اللي مسرف في حقوقه يملا الصحن ويرفض النفس الانفاس وباقي الملا اللي هينات حقوقه عطهم من الثنوة ولا عاد به باس فعندما المقارنة بين النصين نلاحظ التباين الواضح في الألفاظ. ومن الأمثلة أيضاً التي لفتت انتباهي هذا النص المتداول في الأدب الشعبي الفلسطيني: ياتركي يابن حميد ويش هالبعيري ما تجلبونه ان كان تبغون الأرباح أمه نعامة ويجعلوها بعيري ولده مغلطاني يجي على خف وجناح يقوم من بصره ويبات الحظيرة وبكرة وانه على قصر ابوالعوف مرتاح موكوله القطن ويالشعيري ما يبرك إلا في ذرا كل مقراح 2ومن الغرابة انتقال هذا النص من وسط الجزيرة العربية إلى بلاد الشام وذلك لأنه من النصوص غير الجادة ولكن الراوي الشعبي لا يفرق فجزالة القصيدة أو موضوعها ليست شرطاً لانتقالها من بيئة إلى بيئة فالراوي الشعبي يسجل كل ما يسمع وينقله معه من مكان إلى مكان. ولكن ما أثار عجبي هو تفسير المؤلف الذي أورد هذا النص لجملة (يا ترك يابن حميد) حيث قال: "ربما يقصد السلطان عبدالحميد العثماني" ولم يعلم أن هذا النص إنما خليط لمساجلة شعرية جرت بين الشيخين تركي بن حميد العتيبي ومحمد بن هادي القحطاني وأصلها قول تركي: يا راكب اللي مايداني الصفيري هميلع من نقوة الهجن سرساح امه نعامة واضربوها بعيري جاء مشبهاني على خف وجناح عليه خرج من سلوك الحريري وسفايفه مثل الغرابين طفاح يسرح من الطايف ويمسي البصيري والسوق والبصرة يدهجهن بمرواح مزهبك ياراعيه تمر ومضيري وإحذر تشب النار يجفل من الضاح وإلى ورد يشرب ثمانين بيري غرافهن تسعين ودليهن ماح رجليه بالحرة وصدره يسيري ويشرب براسه من على جمة رماح يا ويش هو شي طويل قصيري يسبق زعاجيل الهواء يوم تنداح فرد عليه إبن هادي: يا تركي بن حميد وش ذا البعيري ما تجلبونه كان تبغون الأرباح لاعاد له خف وجناح يطيري أنا أذكر الله راكبه كيف ما طاح يا ربعنا يا كبر كذب الأميري و ياحلو كذب مروية علط الأرماح كيف النعامة نوخت للبعيري أقول ذا كذب على الناس فضاح فانظر كيف تكون من هذين النصين نص جديد مصحوب بشروحات عجيبة. وكذلك امتد التحريف والتغيير والتلفيق إلى المناظرات فيذكر مؤلف (الإبل في التراث الشعبي الفلسطيني) ص 238نص مناظرة بين السيارة والجمل بهذه الصورة فالسيارة تقول: الحق ما يظهره لي ضماني وانا ضماني عند الدركسون وتقعد عند الكرسي جنب الدركسون ياسرع ما أعطيك الضمان فيرد الجمل: لاباس ربي كفيلي على طريق الخير دايم دليلي والصبر مفتاح الفرج والجميلي وانا الجمل اناول صاحبي الرسن والبطاني فترد السيارة: انا اتقدم ما علي اعتراضي انا وجهي من النور امشي على ضو بعيد الأوزاني انا الله خلقني من مفارك حديد سعيد اللي باعني واشتراني انا هذي كلامي والكذب مايعرفه لساني فيرد الجمل: هذا الطرومبيل اللي سمعت دعواه لما افتخر والله عطاه انا الجمل شدونيه بالمحافل انا اطاوع كل عامل اطاول الاطفال والارامل وامشي مع الحجاج كل عام ليحكم القاضي آخر المناظرة: كلامكو عندي مختوم الجمل عندي فضله دايم الدوم تسامحوا وابقوا رفايق وما كان هذا النص إلا تحويرا لمناظرة الشاعر أحمد الغامدي المشهورة في أصقاع الجزيرة العربية بين الجمل والسيارة والتي جاءت في حوالي سبعين بيتا من الشعر ومنها: طاب المثل والفن بين الغريمين خصمين متعادين صلفين صعبين قام الدعاوي والطلب بينهم بين والكل منهم له مقاصد وشانِ يا اجواد لو ما الحق بين العبادي كان الضعيف مع القويين غادي قالوا: صدقت و قلت: هذا المرادي غير اذكروني بين قاصي وداني لنصل بعد هذه المقدمة إلى سماع دعوى كل من المتخاصمين: قال الترنبيل: الذي جاك مأذون أنا ضماني في يديك الدركسون أقعد على الكرسي وخليك مامون ياسرع ما أوديك دار أماني قال الجمل: لا باس ربي كفيلي على طريق الخير دايم دليلي الصبر مفتاح الفرج والجميلي أنا ممسك بالرسن والبطاني قلت: ادعوا وأنا قبلت الكفالة من الذي يقدم ونسمع مقاله قال الجمل: خله يقدم لحاله يحتج و أنا قاعد في مكاني قال الترنبيل: أسمع إن كنت قاضي أنا أتقدم ما علي اعتراضي الأوله وجهي من النور ياضي وأمشي على ضو بعيدٍ وداني ولكن الجمل لم يسكت فأخذ يدافع عن نفسه: البل عطايا الله إن: سلت عنها عند البداوي ما يقدر ثمنها حلايب الخطّار حلو لبنها جدت به المجمول عند ابن ثاني يا ترنبيل الفشل وين باغي لحمك من الكوتشوك وعظمك براغي قدام ما حطوا عليك الصباغي دقوك بين المطرقة والسناني وفي النهاية يحكم بينهما الشاعر: كلامكم عندي مسجل ومعلوم والحق يظهر يا غريمين مفهوم أما الفضيلة للجمل دايم الدوم هذا الصحيح والله المستعان وفي النهاية أتمنى أن أكون بهذه النماذج قد جلّيت الدور الذي تضطلع به الرواية في انتقال الأدب الشعبي من بلد إلى آخر وما يصحب هذا الانتقال من تغيير وتحوير في النصوص الأصلية ليتوائم مع لهجة البلد المنقول إليه مع العلم أن النص حين يصل إلى بلد ما وقبل دخوله في المرحلة الأخيرة من التحوير يكون قد فقد الكثير من لهجته الأصلية. 1- المجلة العربية ع 301س 27صفر 1423ه - مايو 2002م،سهام مهران عبدالله ، القهوة العربية.. أعراف وتقاليد ص 2107- الابل في التراث الشعبي الفلسطيني،سليم عرفات المبيض،ص92، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2007.