لم أر أجمل حلة من عفو المرء في موضعه وأكمل قيمة من المداراة في مدارها، وإنك إن أجلت بناظريك في مشاهد بني قومك ألفيت صوراً من مكارم الأخلاق تجول بك في رياض الذكريات ونفحات الألى كانوا أهلة في سماوات الشيم. فإنك ما إن تقع عيناك على موقف إنساني يزفه إليك تراثنا العربي ناضحاً بالنبل والوفاء والصبر والقيم، تشرئب نفسك وتسمُ ذاتك لمصافحة أمثال أولئك على مشهدنا المعاصر حتى إذا عزّ المثال طويت المقال وأسرفت في التقريع حد الخبال، فإذا بزغ لك نبيل من بني قومك آنست من جانب الفعل نوراً وألفيت من سابح الذكر عطراً، وليس عصرنا ببعيد عن معناه الإنساني حتى نعدم النماذج الكريمة فإن التاريخ الذي ودع حاتماً قادر على أن ينجب "الحواتم"، والذي ودع من قبله أكثماً قادر على إيجاد "الأكاثم"، والتاريخ الذي طوى ذكر زهير قادر على نشر "الأزاهر" والتاريخ الذي كمم أفواه أحنف القيس قادر على إطلاق ثغر "الأحانف". وعليك - أي بُني عصري - أن تؤمن أنه ما من جيل يشيع جيلاً إلا ويستأثر منه بخرز من قلائد الحمد فيعيد انتظامها من جديد في شكل فريد، يزين بها أعناق المروءة، واعلم أن العفو أعظم ما يكون عند أعنف الغضب، وأن المداراة أعظم ما تكون بعد أضعف الرغب، فالعفو يرتقي بصاحبه إلى رتبة الصابرين والمصابرين، والمداراة ترتقي بصاحبها إلى منزلة الحكماء والكرماء وإنما كان العفو أعلى محامد المرء لأنه يخلصه من شوائب الأنا وعشق الذات وضعف الهمة وبلادة النفس، وثورة الغضب، والمداراة كانت أرقى شمائل المرء لأنها تسمو به عن مقارعة الأهواء ومنازلة الأخطاء، ومنازعة الأوداء والألداء على مُلك مُضاع وحق مشاع. قيل لأحد القادرين في حلمه فقال: لقد - وأيم الله - حببّ إليَّ العفو حتى خشيت ألا أُثاب عليه، وقال أحدهم: إذا ما امروء من ذنبه جاء تائباً إليك فلم تغفر له فلَكَ الذنبُ وقال حكيم: إذا اعتذر الصديق إليك يوماً من التقصير عذر أخ مقرِّ فصنه عن عتابك واعف عنه فإن الصفح شيمة كل حرِّ وقيل للحسن البصري ما المداراة، فقال: "كانوا يقولون إنها نصف العقل وأنا أقول إنها كل العقل". ولما كان لقمان الحكيم ينصح ابنه حثه على العفو والمداراة قائلاً: "يا بني لا يطفئ الشر شراً، وإنما تطفئ الماء النار، ولا تطفئ النار ناراً". وإن المرء إذا ما رغب في غشيان القيم واستنهاض الشيم التمس العذر لأخيه: اقبل معاذير من يأتيك معتذراً إن برّ عندك فيما قال أو فجرا فقد أطاعك من أرضاك ظاهره وقد أجلّك من يعصيك مستتر