تُفاخر الأمم والشعوب بعلومها وحضارتها، وقد سبقتها هذه الأمة منذ أن لامس شغاف قلوبها "اقرأ" فجثى الطلبة في حلق العلم، وضُربت أكباد الإبل لسماع حديث واحد. وتنوعت المعارف والعلوم الأخرى فكانت لها عناية خاصة، ومما ذكر عن الإمام الشافعي - رحمه الله - قوله: "لا أعلم بعد الحلال والحرام أنبل من الطب". ونهضت الأمة بسطوع هذا الفجر الجديد، وتَرَقَّت في علياء المجد، وكثرت حواضر العلم في أنحاء البلاد حتى ضُرِبَ المثل بأمة أمية لا تقرأ ولا تكتب أضحت خلال قرنين من الزمن يندر فيها وجود الأمي! ومن ساهر القمر وحيداً يحكي دمعه لغطاً وشعراً؛ سامر وأنس بالكتاب صاحباً ورفيقاً، ومن أهمه الثأر والقتل؛ رَقَّت طباعه وقربت دمعته عندما سمع آيات التنزيل تنهى عن ذلك. بل ومن أنجد محبة الأطلال شرق وغرب نحو معين العلم وأهله. أمة جمع الله لها بين العلم والإيمان وهو ما تخلو منه صفحات التاريخ وحضارات الأمم السابقة واللاحقة! مدخل أردت أن أسر القارئ الكريم به، قبل أن اذكر له أنني نشرت قبل فترة في هذه الصفحة رسالة بعث بها الجد الشيخ عبد الرحمن بن قاسم إلى الشيخ/ حمد الجاسر - رحمهما الله - وكان لها صدى طيب، ونقاش مثمر، وأحسب أن مثل هذه الرسائل تستحق ذلك. ورغبت اليوم في قراءة وعرض رسالة أخرى بعث بها الجد إلى الشيخ محمد بن عبد العزيز بن مانع ( 1300- 1385ه) وهو من العلماء الفضلاء وله جهد مشكور وسيرة زكية في التعليم والتدريس. حتى توج ذلك في عام 1365ه بأن صدر مرسوم ملكي بتعيينه مديراً عامّاً للمعارف واستمر كذلك حتى شكلت وزارة المعارف وأسندت وزارتها في حينه إلى سمو الأمير فهد بن عبد العزيز - رحمه الله . وبدا لي بين يدي هذه الرسالة أن أهل العلم والحُكم، بل وعامة الناس ممن لهم سعة في العقل والإدراك يطلبون النصيحة ابتداءً. ومن العادات الطيبة والموروثات المباركة: المناصحة والتذكير رأفة وشفقة وإعانة وتسديداً؛ خاصة لمن حُمِّل أمراً من أمور المسلمين رغبة في التسديد والتوفيق، وسد الثلم، ومعالجة القصور، فالمرء بإخوانه طالباً في ذلك براءة الذمة. والناس في باب النصيحة على أضرب مختلفة وعلى طرفي نقيض؛ إما عزوف عنها أو إنزالها منزلة الفضيحة، وقلَّ منهم من سلك المنهج الشرعي في ذلك. والرسالة تدثرت بالمنهج والتزمت به وقد كتبت بعد تولي الشيخ محمد بن مانع إدارة المعارف بأربع سنوات وهي فترة احتاجت فيها البلاد مع التوسع في التعليم إلى معلمين من بلاد أخرى فكأن الجد - رحمه الله - استشعر الفوارق بين أهل هذه البلاد وغيرها وعظم مسؤولية المعلم وأنه المربي لجيل ناشئ يخشى عليه من الوافد الجديد ديناً وعقيدة وتقاليد. وهو - رحمه الله - ينزع في هذا إلى أهمية التربية بالقدوة، وأن القدوة هي الموجه الأول في العقائد والأخلاق والآداب، ولهذا ذكر الله - عز وجل - عن نبينا محمد أنه قدوة لعباده (لَقَدء كَانَ لَكُمء فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسءوَةٌ حَسَنَةٌ) بل ونحن في كل ركعة ندعو أن نلحق بالركب (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمء). وقد ظهر جليًّا في ثنايا الرسالة حرصه على هذه البلاد، وعلى ركيزة من أهم ركائزها ألا وهي تعليم الناشئة. خاصة أنه - رحمه الله - إبان جمع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية طاف البلاد العربية كالشام ومصر والعراق وغيرها، وبلغ به السفر حتى حط في فرنسا للبحث عن المخطوطات في وقت لم يتعد عامة الناس قراهم؛ ولهذا فله اطلاع على أحوال الشعوب وما أحدثه التعليم سلباً وإيجاباً. ومما ورد في الرسالة: التنبيه على كثرة مزاحمة العلوم لبعضها وعدم التخصص فنتج عن ذلك ضعف التعليم بشكل عام وهو ما نراه ماثلاً للعيان. ونص الرسالة كما يلي: بسم الله الرحمن الرحيم حضرة صاحب الفضيلة الشيخ محمد بن مانع المحترم سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ونحمد إليك الله على جزيل نعمه وبعد، قد استرعاك الله على إحياء هذه الأمة المحمدية، فعليك بالاعتناء بالأساتذة الأكفاء وتفقد حالهم وحال التلاميذ فإن ذلك من أعظم أسباب التوفيق، فقد مضت سنون ولم ينتج عن التلاميذ - مع كثرتهم - مَنء برع في العلم النافع؛ وذلك لعدم كفاءة الأساتذة ومزاحمة الفنون التي هي تعب وعنى، وعند النقد تتلاشى وتضمحل فيخسر التلميذ شبابه والعلم النافع، والرجاء من حضرة الأستاذ الجد في إعزاز ما جاء به سيد المرسلين وإعلائه ورفع مقامه وتقديمه وتقديم من قام به ورفض ما سواه، ورفض من أصيب بالانصراف عنه أو الصرف عنه، لاسيما من ابتلي بالأخلاق التي هي غير مرضية؛ كحلق اللحى، وشرب الدخان، والتهاون بالجماعات، وغير ذلك؛ فإن التلميذ ينصبغ بأخلاق أستاذه فتنطبع فيه تلك الروح، بل لا يجوز أخذ العلم عمن تلك حاله وبالأخص من تخصص في نجد بالعلم النافع، بل لا يجوز أن توجه فطرته إلى ما قد رغب فيه من لا بصيرة له، ويصد عن العلم النافع؛ علم الكتاب والسنة؛ هدي محمد (الذي هو الهدى والنور وفيه الخير بحذافيره، من أخذ به أخذ بحظ وافر ومن أعرض عنه خسر دنياه وآخرته، وهو يسير على طالبه، ومع ضعف الاعتناء به، وقلة من يهتم به، وكثرة العوامل الصارفة عنه؛ أصيب الناس بوضع فنون تزاحمه، وأساتذة يحثون الناس عليها ويوهنون أمره، فنسأل الله بأسمائه الحسنى أن يعين الأستاذ ومن له مقال في المقام على إعزاز ما جاء به سيد الأنام وتقديمه على ما سواه وجعله نصب أعينهم ودفع ما يضعفه؛ فلقد أشرعت الدول في أصله مجادفها، وأنشبت العلوم العصرية فيه أظفارها، وغلغلت أساتذتهم فيه أنيابها؛ ليقلعوه، وأحاطت به منه كل جانب الأسقام، وبلغت منه الروح الحلقوم، وطوى غالب العرب في كثير من النواحي بساطه، وأقيمت القشور من الفنون والمجلات وغيرها مقامه وإن حضروا فللتبجح والتبرك، ولئن لم تُطيب أرضه، وينق بذره، ويُخلص من الدغل ويبالغ في سقيه؛ ليضعفن ويتلاشى من هذا الوطن فتداركوه قبل أن يجتث باب أصله كما اجتث من كثير من الأقطار وعسى أن لا تكون المصيبة به في عهدكم؛ فاهتموا به واعتدوا نياتكم في تداركه وتوطيده من صالح الأعمال، وفقنا الله وإياكم لما يرضيه، ومنا السلام على الأبناء والمشائخ والإخوان ومن عندنا المشائخ والإخوان ينهون جزيل السلام وأنتم في أمان الله وحفظه والسلام. 69/5/10محبكم/ عبد الرحمن بن قاسم. والرسالة وصية جامعة تبين أهمية المعلم وأنه المربي والموجه للطلاب ومنه يأخذون ومن طرقه يستنون وبسيرته يقتدون. ذكرت كتب السير والتراجم أن الإمام مالك قال: قلت لأمي أذهب فأكتب العلم؟ فقالت: تعال فالبس ثياب العلم فألبستني مسمرة، ووضعت الطويلة على رأسي وعممتني فوقها، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن، وكانت تقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه. ومن تأمل واستقرأ في كتب السير يرى مكانة المعلم وانطباع أخلاقه وعاداته في نفس الطالب ناهيك عن علمه وعقيدته. وللقارئ أن يجول في سطور الرسالة ليقرأ ما بينها، ومن تأمل فوارق الزمن وما أحدثته يلحظ أموراً لا تخفى. أشكر القارئ على حسن قراءته وأشكر أخي الفاضل/ عبد الإله الشايع الذي وافاني بنص الرسالة وهي من محفوظات مكتبة الملك فهد الوطني