الغزو والاجتياح والاقتحام والاستعمار والاحتلال كلها مفردات عربية نخلط بين معانيها فنستخدمها في سياق واحد يشير الى اعتداء دولة على أخرى أو فئة على فئة غيرها، وقد لا يكون ثمة خلاف كبير على قسوة لاانسانية تجمع الغزو والاجتياح والاقتحام في سلة واحدة لاغتصاب الأمن والسلامة من جانب طرف غاشم يمارس جبروته على طرف مسالم.. انتهت أزمنة الغزوات القديمة والاجتياحات، كالحملات الصليبية على بلاد المسلمين وحملات الغزو الانجليزي والفرنسي والأسباني والايطالي وغيرها - لولا أن السياسة الأمريكية تحاول اعادتها في أفغانستان والعراق وجدولة بلاد أخرى لمشروعات مستقبلية، وبقيت رؤى وأساليب الاستعمار كما هي تبدل قناعا بقناع، فمن استعمار جغرافي قد يصلح الأرض ويستثمرها فيعمرها ويستولي على خيراتها، الى استعمار اقتصادي يربط حركة المال والأسواق في بعض البلدان بمصالحه الخاصة الى سياسي يربط مصائر الأمم ضمن تكتلات وأحلاف تستنزفها، الى استعمار فكري وثقافي ربما يكون هو الأشد خطرا لجمعه بين معاني الغزو والاجتياح والاحتلال والاستعمار وانما عن بعد .. يستدرجنا عادة مصطلح "الغزو الفكري" الى الكتب الأجنبية وما تنقله من أفكار، مع أن الكتب هي أبسط أدوات الغزو الفكري وأقلها خطرا نظرا الى أنها تترك لقارئها حرية الاختيار، وبقليل من الوعي يميز القارئ الذكي بين ما ينفعه وما يضره فيأخذ ما يشاء ويهمل ما عداه، كما يستدرجنا المصطلح الى تأمل ما تصدره لنا الدول الاستعمارية من "أفلام" غربية، بعضها يروج لفكرة التفوق الأوربي ويشجع على أعمال العنف والمغامرة، أو يكرس لتفكك العلاقات الأسرية ويحض على سلوكيات التسيب والانحلال، وتلك أيضا أداة يسهل الانتباه اليها والتصدي لها خاصة اذا تنبهنا أننا أحيانا نكون مستهدفين بها. في يقيني أن أخطر أدوات الغزو الفكري - وسيخالفني كثرة لا بأس بها - تساهم به "اللغة". واستدرك سريعا لأوضح أنني لا أعني اللغات الأجنبية التي نتعلمها في المدارس والمؤسسات التعليمية أو بأي وسيلة، فمعرفة اللغات الأجنبية ضرورة لنأمن شر أهلها، وانما أقصد استخدام اللغة كوعاء لطمس الهوية، والمؤسف في الأمر أننا نحن مشاركون في تلك المهمة أو مبدعون لها من الأساس، كأنما نحن نستجلب الغرب بعاداته وتقاليده وقناعاته عبر انتشار أدوات تعبيره عنها دون أن ندري، فاذا أردنا أمثلة لذلك لما اتسع لها مجال، فكلمة "بلاج " البحر- بدلا من الشاطئ - و " مايوه" تستدعي العري في المخيلة، وكلمة " كازينو" تستدعي اللهو وأوراقه، فضلا عن الممارسات والتقاليد المرتبطة بتلك المسميات. وقد يهون الأمر لو اقتصر على أماكن محددة غير أننا بدأنا نرى انتشار المسميات الأجنبية داخل مجريات الحياة اليومية مثل الجراج والفيلا والدوبلكس والسوبرماركت أو المينى ماركت للبقالة الكبيرة أو الصغيرة والسنتر والمول بدلا من الأسواق والمجمعات، وفي بلد واحد كالأسكندرية حملت غالبية الشواطئ أسماء أجنبية مثل ستانلي وكامب شيزار وفيكتوريا وكوت دا ازور وسان استيفانو ولوران وميامي والهانوفيل وكليوباترا ونفرتيتي وبيانكي ونيرفانا وباراديس وفينيسيا وسميراميس وجاردينيا وفاميلي بيتش واسبورتنج، كما حملت القرى الجديدة أسماء من مثل بفرلي هيلز وبالم هيلز وبالم هايتس ومارينا وجاردينيا وغيرها. هذه المسميات فيما أتصور تمثل بلا شك "اختراقات للغزو من الداخل". ان كان هذا أمراً طبيعياً فهل نتوقع أن نجد مثلا شاطئ البطحة في سويسرا أو في أي بلد أجنبي من الدنيا؟.