قبل عشرات السنين كان أجدادنا في الخليج يعيشون تحت فقر مدقع، ويكابدون حياة صعبة فيها من شظف العيش وكدر الحال ما الله به عليم، وكانت الخيرات والأرزاق على الأقاليم المجاورة تهطل كغيث سحاح، ومع ذلك كانوا بصفاء الطوية ونقاء السريرة وبداهة العربي النبيل يباركون لأهل النعيم نعيمهم، ولم يحسدوا أصحابها قيد ذؤابة ولا قدر أنملة، بل أخذوا يتعاطون معهم بالشكر والدعاء، فكانت جائزة هذا النبل والبراءة والمحبة منحة من السماء هو ذلك النفط الذي أذهب عنهم الحزن وبرأهم مما كانوا فيه فلما تلقوا هدية الله لم يكفروا بها ولم يجحدوها ولم يصنعوا منها حبائل غدر ولم يفتلوا منها حبال قطيعة بل ازدادوا قرباً من إخوانهم وازدادوا عطاء ومحبة وسلاما، فاستقبلوا هذا الوافد المضئ والزائر المشرف بمزيد من الصفاء فالتمعت حياة جديدة، برز من خلالها ابن الخليج عنصراً حياتياً مؤثراً ومكوناً اجتماعياً مميزاً. استحال هذا النفط بفضل الله ثم بفضل ساسة حكماء وقادة ملهمين، استحال مالاً ذكياً، مالاً فاعلاً والمال الذكي هو المال الذي يبني، المال الذي يصنع المعجزات، الذي يشق الطرق ويبني السدود ويرسم المعالم ويحدد الأماكن ويقيم المشروعات ويشيد البناءات ويقدم فرص الحياة يغذي الأجسام والأفهام، ويخلق المواهب والمبدعين، المال الذكي هو الذي يصنع للحياة مقوماتها وللبلاد مقدراتها، وللأمم حضاراتها، وعلى حين كان المال الغبي مهدراً في سراديب (الأنا) ومجاهيل (الذات) يجف في حقول المتع ويتيبس في رياض اللهو وعلى حين كان يقف دون حقوق الأرض من الخصوبة والري والإنبات كان المال الذكي يحرث التربة ويبذر السنابل ويسقي الزرع، لتقوم حياة الإنسان التي فيها يجد فرصاً عظيمة لبناء الفكر والذهن والاستزادة من الثقافة والمعرفة حتى أصبحنا أمام مشاريع ضخمة تبني وتعمر أمام قيم حضارية وعلمية وثقافية تعبر عن حكمة وبعد نظر حتى وجدنا أنفسنا أمام إشراقات عظيمة في كل فن وكل معطى حياتي، ليشع نور الأدب وتضيء معالم المعرفة، مثلما تجسده ثقافياً "أبو ظبي" كأنموذج خليجي يدلل على أن هذا الخليج لم يكن مصدر نفط وحسب بل أيضاً مصدر للطاقة الإبداعية الخلاقة والمعنى الثقافي المتحضّر.