العنف هو كل ضغط يمارس ضد الحرية الشخصية ومجمل أشكال التعبير عنها، بهدف إخضاع طرف لصالح طرف آخر في إطار علاقة قوة غير متكافئة سياسيا أو اقتصاديا أو اجتماعيا أو غيرها، وسواء أكان عدم التكافؤ قائما على الجنس أو المنشأ أو العرق أو السن، فإنه مساس بجوهر الشخصية الإنسانية، وعائق لسلامتها ونموها وتطورها ولأنسنة الوجود البشري ذاته. تتوفر لدى الأسرة أكبر إمكانية لحماية الأطفال والتكفل بسلامتهم الجسدية والعاطفية، لكن في السنوات الأخيرة جرت عملية رصد للعنف الذي يرتكبه الوالدان وغيرهما من أفراد الأسرة ضد الأطفال، أما مراكز الرعاية والمؤسسات الإصلاحية فيواجه الأطفال فيها عنفا من مقدمي الرعاية بالضرب أو بتقييد الحركة أو بحبسهم، كما يواجه الأطفال ذوو الإعاقات عنفاً متخفياً في صورة علاج، كتعريضهم للصدمات الكهربائية، أو إعطائهم أدوية لجعلهم أكثر هدوءا، ويتعرض الأطفال الذين يكونون رهن الاحتجاز للعنف من جانب العاملين في تلك المراكز. كما أن احتجازهم مع الكبار في مراكز الشرطة كثيرا ما يعرضهم للعنف من المحتجزين الكبار أنفسهم، كذلك يتعرّض بعض الأطفال للعنف في المدارس والبيئات التعليمية كالعقاب البدني و النفسي مثل التمييز والتحيز والتفرقة. وإذا تجاوزنا هذه البيئات ونظرنا إلى الأسرة باعتبارها أكثر الأمكنة التي لا يتوقع أن تكون بيئة حاضنة للعنف ضد الأطفال، نفاجأ بأن الأعوام الأخيرة في بلادنا شهدت حالات من العنف ضدهم، مابين احتجاز وتقييد وضرب أفضى إلى الموت في أكثر من حالة، وكلها حدثت من قبل الأسرة، والجامع بينها هو أن أغلبها إن لم تكن كلها موجهة ضد فتيات وليس ضد فتيان، مما يؤكد توحش من مارسها وانتقامه من المرأة في أشخاصهن، إضافة إلى أن أبطالها هم الأب في المقام الأول تليه زوجة الأب وتلكما أكثر الحالات، تليها بصورة أقل الأم، وكانت معظم الحالات التي مورست من قبل الأب وزوجته انتقاما من زوجته المطلقة أم الطفلة، وآخر تلك الحالات ما زالت تعالج في أحد المستشفيات نتيجة لتعذيب والدها لها انتقاما من والدتها المطلقة كما ذكرت الصحف، القائمة تضم صغيرات لم يبلغن العاشرة بعد كبلقيس ورهف وغصون وشرعاء وأريج وغيرهن، منهن من توفيت ومنهن من بقيت حبيسة أمراضها النفسية والجسدية التي لن يمحوها الزمن. وكان لا بد بعد تنامي موجة العنف ضد الأطفال من إصدار قانون لحمايتهم مما يتعرضون له، للحيلولة دون تكراره، ولهذا فقد نشرت صحيفة الحياة بتاريخ 16مايو 2008، أن هيئة خبراء تابعة لمجلس الوزراء انتهت من وضع نظام لحماية الطفولة، ليعتمده مجلس الوزراء فيما بعد. ويأتي النظام بعد أربعة أعوام من قرار الحكومة إصداره! وقد أعد بما يتوافق والمتغيرات الأخيرة في المجتمع السعودي، حماية للطفل من جميع أشكال العنف في الأسرة والمؤسسات التعليمية، والبيئة التي يعيش فيها، وسيكون العمل به تحت مظلة قانونية. وقد تمنى أحد المسؤولين عن النظام إنشاء هيئة مستقلة لا تتبع أي وزارة لتنطلق في برامجها، ولا تتعثر بالقيود البيروقراطية للوزارات، مستشهداً بلجنة الطفولة في وزارة التربية والتعليم التي تأسست منذ عشرات الأعوام، متسائلاً: ماذا قدمت للمجتمع؟ وهو محق في سؤاله، فماذا عسى لجنة كهذه أن تفعل ولا أحد سمع بها من قبل ولا بمهامها، بل أين كانت تلك اللجنة ومعظم ضحايا العنف تلميذات منتميات لوزارة التربية والتعليم!! ومن قراءتي للنظام وجدت بعضاً من التداخل والتكرار في بنوده، إضافة إلى عدم التفريق بين حقوق الطفل وحاجاته، وآليات التوعية بحقوق الطفل وسبل نشرها، وفي الإجمال فإن النظام يحتاج إعادة صياغة لغوية لتجعله واضحاً وسهل الفهم لمن يطلع عليه، أو يوكل إليه العمل به. ومن بنود ذلك النظام: 1- حماية الطفل من كل أنواع ومظاهر الإساءة والإهمال التي قد يتعرض لها الطفل في البيئة المحيطة به في الأسرة والمدرسة والحي والأماكن العامة ودور الرعاية والتربية البديلة، والمؤسسات الحكومية ومؤسسات القطاع الأهلي. 2- الحد من انتشار أشكال الإساءة والإهمال وتوفير الرعاية اللازمة للطفل المعرض لذلك. 3- نشر وتعزيز الوعي بحق الطفل في الحياة بلا إساءة أو إهمال. وكان يمكن اختصار هذه البنود الثلاثة نظرا لما فيها من تداخل وتكرار وصياغتها ببند واحد لتكون أكثر وضوحا. - للطفل الحق في الحماية من كل أشكال الإساءة والإهمال ويحظر تعريضه لها، ومن ذلك الإساءة الجسدية... الإساءة النفسية... الإساءة الجنسية... الإهمال: وهو التقصير أو عدم توفير حاجات الطفل الأساسية... وحيث إن الزواج المبكر يدخل في نطاق الاعتداء الجنسي على الصغيرات، فقد كان يجدر بمن وضعوا النظام أن ينصوا على منعه واعتبار من يمارسه معتديا جنسيا، تجب محاسبته. كما يأخذ القانون في الاعتبار ما يأتي: 1- تُقدم مصلحة الطفل عند اتخاذ الإجراءات في ما يتعلق بشأن الطفل سواء قامت بها الهيئات التشريعية أو المحاكم أو السلطات الإدارية أو مؤسسات الرعاية الاجتماعية العامة أو الخاصة. وهنا كان لابد من إضافة فقرة لتفسير ذلك مثل: في حال تنازع الأبوين على حضانة الطفل وخصوصا الفتيات، مع ثبوت إساءة الوالد للطفلة وتعذيبها كما حدث في كل حالات العنف، فإن مصلحة الطفلة أولى أن تؤخذ في الاعتبار وهي أن تكون في حضانة والدتها. 2- حاجات الطفل العقلية والنفسية والبدنية والأدبية، بما يتفق مع سنه وصحته وغير ذلك. ويحظر القانون على الطفل ما يهدد سلامته النفسية أو البدنية مثل: البقاء من دون سند عائلي، والتشرد والتقصير البين في تربيته ورعايته، والاستمرار في سوء معاملته وعدم إحاطة من يقوم برعايته بأصول التربية السليمة، واستغلاله جنسياً أو اقتصادياً أو في الإجرام المنظم أو في التسول، ومغادرته مكان إقامته، و الانقطاع عن التعليم، والبقاء في بيئة يتعرض فيها للخطر. وهنا وقع خطأ في صياغة البند الذي ينبغي أن يكون (يحظر القانون ما يهدد سلامة الطفل...) أي تمنع الأمور التي تهدد سلامته لأنها في الغالب تقع عليه وليس له يد فيها حتى يقال يحظر عليه، كما ينبغي اعتبار تزويج الآباء للصغيرات ضمن الاستغلال الاقتصادي للطفل. ومن البنود، بنود تتعلق بحمايته من الانحراف، وحق الطفل المحروم من بيئة عائلية في الرعاية البديلة، وحق فئات خاصة من الأطفال في الحصول على مساعدات اجتماعية وفق شروط تضعها الدولة ومؤسساتها. وبنود أخرى تتعلق بأمور محظورة، كتشغيل الأطفال دون سن الخامسة عشرة، وألا يؤثر تشغيلهم في هذه السن على تعليمهم أو سلامتهم، أو حيازة مواد أو مطبوعات تشجعهم على الانحراف، أو بيع التبغ ومشتقاته. أما عند قيام الطفل بجنحة فقد رأى النظام أن تُعطى الأولوية للوسائل الوقائية والتربوية، ويتجنب قدر الإمكان الالتجاء إلى العقوبات المقيدة للحرية، وهنا يجب عدم سجنه أو توقيفه. وهذا جيد، لكننا رأينا أن حكماً طبق على يتيمين توفي والدهما وكان عليه دين لأحد البنوك فجرى حبسهما حتى يُسدد الدين. وفي هذا الحكم ما فيه من قسوة وظلم، ينبغي للنظام أن يضع بندا يجرم ذلك ولا يجوزه أبدا. أما المسؤولية الجنائية فيرى النظام منعها عن الطفل الذي لم يبلغ من العمر سبع سنين كاملة، وكان ينبغي رفع هذا العمر إلى الخامسة عشرة وهي سن البلوغ، فكيف يعتبر ابن السبع سنوات مسؤولا؟ والنظام نفسه عرّف الطفل حسب أنظمة الأممالمتحدة بأنه (من لم يتجاوز ثمانية عشر عاما من الناحية القانونية، وخمسة عشر عاما من الناحية الشرعية). أما فيما يتعلق بإجراءات الحماية فقد جاءت على نحو يكفل حق الأطفال في الحماية من العنف متى طبقت كما ينبغي لها، ومنها: - يحق لكل شخص الإبلاغ عما يهدد سلامة الطفل أو صحته البدنية أو النفسية. - يكون الإبلاغ وجوباً على المربين والأطباء والممرضين والاختصاصيين الاجتماعيين وغيرهم ممن تعهد إليهم حماية الأطفال والعناية بهم. وهنا لابد للنظام من التأكيد على مساءلة من يتقاعس عن ذلك ومحاسبته وتطبيق الجزاءات عليه. - على كل شخص بالغ مساعدة أي طفل بإبلاغ الجهات المختصة بمعاناة ذلك الطفل أو أحد إخوته أو أي طفل آخر من إحدى حالات الإساءة والإهمال. وهذا البند ينبغي أن يضم إليه البند الأول من بنود إجراءات الحماية، وإعادة صياغتهما نظرا لما فيهما من تقارب وتكرار. - لا يجوز لاختصاصي الحماية أو لأي شخص آخر الإفصاح عن هوية من قام بواجب الإبلاغ إلا برضا المبلغ أو الحالات التي يحددها النظام. - تُنشأ في كل منطقة إدارية وحدات لحماية الطفولة تلحق بها دور ضيافة، وتكون تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية، تضم اختصاصيين اجتماعيين ورجال أمن...، ويتم التنسيق بين وزارة الداخلية ووزارة الشؤون الاجتماعية، لتحديد حاجة كل منطقة من الوحدات والتشكيل اللازم لها وآلية عملها. - تحدد اللائحة التنفيذية الشروط الواجب توافرها في الاختصاصيين الاجتماعيين العاملين في وحدات حماية الطفولة. وهنا لابد من التنبيه على أهمية إخضاعهم لاختبارات نفسية للتأكد من سلامتهم قبل تكليفهم بالعمل في مؤسسات الطفولة؛ لضمان عدم تعرض الأطفال للعنف من قبلهم. - توكل لاختصاصيي حماية الطفولة مهمة التدخل الوقائي والعلاجي في جميع الحالات التي تهدد سلامة الطفل أو صحته الجسدية أو النفسية... - يجوز للمحكمة المختصة أن توقف حق الولاية الشرعية على الطفل إذا تبين أن وليه لم يكن أهلاً للولاية عليه حسبما تقتضيه الأحكام الشرعية. وهنا لابد من التأكيد على مراعاة مصلحة الطفل كأن تكون أمه هي الولية عليه، وليس من لا يراعون مصالح الطفل ولا يبالون بها من الأقارب. - تتولى المحكمة المختصة النظر في المخالفات الناشئة عن تطبيق هذا النظام، وتقرير العقوبة المناسبة بحق المخالف. وهنا أيضا لابد من تحديد العقوبات ضد المخالفين وعدم تركها للاجتهادات ضمانا لتطبيقها على كل المخالفين دون استثناء، وتوحيدها في جميع المناطق. وبعد فلا ريب أن هذا النظام جيد من حيث إلمامه بكثير من الأمور التي تكفل- لو طبق على نحو جاد - الحد من حالات العنف الموجه للأطفال، ولهذا ينبغي أن يتضمن إضافة لما سبق: - إلزامية التعليم بأن يكون إجبارياً للذكور والإناث، والعمل على مساءلة الآباء الذين يمنعون أبناءهم وبناتهم بشكل خاص من التعليم. - متابعة الأهالي الذين يتلقون إعانات للأطفال الذين يعانون من إعاقات جسدية أو ذهنية، للتأكد من إلحاقهم بالمدارس الخاصة بهم، والتأكد من حصولهم على العناية والرعاية، وعدم عزلهم عن المجتمع، ومحاسبة من يتقاعس عن ذلك. - منع تزويج الصغيرات وتحديد سن الزواج للفتيات بسبع عشرة سنة، وتجريم من يخالف ذلك. - تعميم النظام بعد إقراره على المدارس وإلزامها بتعميمه وتوزيعه على الطلاب والطالبات في كافة المراحل الدراسية، وإقامة ندوات لشرح بنوده لهم. - تعميم النظام على الأهالي وتوزيعه عليهم، ونشره في الصحف وكافة وسائل الإعلام ومناقشته عبر القنوات التلفزيونية. - تخصيص خط هاتفي ساخن يشرف عليه اختصاصيون اجتماعيون ورجال أمن للتبليغ عن حالات العنف، وتلقي شكاوى الأطفال، على أن ينشر بين الصغار ويعمم عبر وسائل الإعلام ؛ليعرفه الجميع. - إقرار قانون للعقوبات ينشر ويعمم ؛ ليكون رادعاً لكل من تسول له نفسه ممارسة أي شكل من أشكال العنف ضد الصغار. تنويه : بعد أن فرغت من كتابة المقال، فوجئت بنشر صحيفة الحياة يوم الأربعاء 15أكتوبر، نظام الحماية من الإيذاء الذي أعدته هيئة خبراء تابعة لمجلس الوزراء، فهل هذا النظام يختلف عن نظام حماية الطفولة الذي عرضنا بعض بنوده هنا؟ أم أنه اختزال له في إجراءات الحماية التي تضمنها النظام الذي عرضناه؟ وإذا كان الأمر كذلك فما مصير نظام حماية الطفولة لأنه أعم وأشمل من نظام الحماية من الإيذاء؟