ذكرت في الحلقة الماضية من هذه الجولة، مهنة صيد السمك التي تمارسها النساء في جزيرة قمّاح الواقعة على حدود المياه الإقليمية الجنوبية للمملكة على البحر الأحمر، والرحلة التي ابتدأت من جازان عبر العبارة (فارس السلام) وصولا إلى جزيرة فرسان ومنها العبور بالمركب إلى جزيرة قمّاح حتى انتهى بنا الحديث إلى الوصول للجزيرة. ترحيب بالزوار أول ما لفت نظري وأنا أنزل من المركب وجود بقايا لمبنى قديم يشبه السور عرفت من البحار (أبكر) أن المبنى يسمى (بيت الجرمل) والاسم ربما كان تحريفا لكلمة (جيرمان) أي الألمان - وهو البناء الذي بناه "الألمان" خلال الحرب العالمية الأولى وتبلغ مساحته 107م طولاً، و 340متراً عرضاً، نظرا لموقع الجزيرة التي تشرف على الممر الدولي للبحر الأحمر وعلى السفن العابرة من قناة السويس إلى باب المندب في الجنوب وبالعكس، وكانت بهذا الموقع الاستراتيجي بمثابة مستودع كبير لهم فيها لتوفير الذخيرة لسفنهم الحربية. كما لمحت على الجانب من الساحل وجود عائلة من أهل الجزيرة يقوم جميع أفرادها من أطفال ونساء بتحميل حجر البناء (البلوك) وبعض الأجهزة الكهربائية الحديثة في السيارة (الوانيت) لتوصيلها لمنزلهم داخل الجزيرة. اقتربت من السيدات وحادثتهن قليلا. وحين عرفن هويتي وسبب زيارتي وجدت ترحيباً كبيراً منهن وبسرعة فائقة قمن بفرش سجادة على الأرض في كوخ من القش وأحضرن المياه المعدنية، أثناء تبادل الحديث معهن أحسست براحة وطمأنينة أزالت عني الهاجس الذي سيطر علي طوال الرحلة من وحشة اللقاء حيث شعرت بصدق مشاعر هؤلاء السيدات البسيطات ومدى تعودهن على قدوم الزوار والضيوف، كما لمست رغبتهن الشديدة في توصيل صوتهن إلى المسئولين بتوفير الكثير من المطالب التي تنقصهن في الجزيرة. رحلة الصيد الخالة (أم ماجد) سيدة في الخمسين من عمرها عاشت طوال هذه السنوات في الجزيرة التي تحبها وتفضل البقاء فيها رغم عدم وجود المياه والكهرباء، تقول أم ماجد: (ولدت في هذه الجزيرة ولا أعرف سواها وتزوجت وأنجبت جميع أبنائي، ولا نذهب منها إلا إلى فرسان فقط لبيع إنتاجنا من السمك والصدف والمحار وتعلمت حرفة الصيد من والدي، فكنت أخرج معه وأنا ما زلت في السادسة وعرفت مواسم السمك وأنواعه. تصف أم ماجد رحلتها في الصيد قائلة: "نخرج أنا وبعض من جاراتي ومن يحب من الفتيات في وقت المغرب ونقوم بفرش الشباك على طول الساحل ونجلس في العشش القريبة من الشاطئ، أو نذهب لمنازلنا ونقضي بعض الحوائج ومن ثم نعود للشاطئ لرفع الشباك وجمع السمك العالق داخل الشبكة في سلال ومن ثم إحضاره للمنزل وتنظيفه وتمليحه ونشره على الحبال ومن ثم الذهاب به لجزيرة فرسان وبيعه في سوق السمك". أما عن خبرتها الطويلة في هذه الحرفة المتوارثة فتقول: "أن الوقت المفضل للصيد يكون دائما ما بين الساعة الرابعة عصرا وحتى السادسة مساء، كما يمكن الصيد بعد صلاة الفجر مباشرة وحتى بعد شروق الشمس ففي هذه الأوقات يبدأ السمك في التحرك للبحث عن الطعام في البحر ولذلك يسهل صيده". أثناء الحديث بيننا دعتني أم ماجد للذهاب إلى منزلها داخل الجزيرة، وذهبنا عبر سيارة الوانيت التي قادها أبنها ماجد للمنزل وفي الطريق سألتها عن حجر البناء والأجهزة الكهربائية الموجودة على الشاطئ، فبادرت مريم ابنة أم ماجد بالقول: (اشترينا حديثا جهاز الماطور الكهربائي لتشغيل الكهرباء في البيت لعدم إيصال خدمة الكهرباء كما اشترينا جهاز التكييف فكما ترين الجو حار هنا كثيرا ولا يطاق). منزل أم ماجد عند وصولنا لمنزل (أم ماجد) دخلنا غرفة بها كنب ومفروشة بالفينيل بدت لي أنها الغرفة الوحيدة التي تجتمع بها العائلة للجلوس، أما عن النوم فتقول (سمية) البنت الصغرى: (نقوم بفرش المراتب والأغطية في الحوش وننام جميعا) كانت أرضية المنزل مفروشة بالحصى، كما جميع المنازل بالجزيرة. تقول أم ماجد: قمت بتنظيف سمك السيحان وتمليحه وتعليقه على الحبال لغرض بيعه وتبلغ قيمة السمكة الواحدة ريالاً واحداً. على الجانب الآخر رأيت المطبخ الذي لم يكتمل بناؤه بعد، ثم غرفة في وسط البيت تحتوي على عدد من الأسرة يجلس في وسطها العم أبو ماجد. تقول ابنته سمية: (أبي يعاني من عدة أمراض وأصبح لا يقوى على الحركة والعمل فهو يقضي جّل يومه جالسا كما ترين وبجانبه "ترمس الشاي"). مواسم السمك الخالة أم عثمان لا تقل خبرتها عن جارتها (أم ماجد)، تحكي عن همومها اليومية في حرفة صيد السمك قائلة: كنت سابقا أذهب مع أبو عثمان للصيد ولكنه الآن طريح الفراش ويعاني المرض، لذلك نذهب نحن الجارات كمجموعة على الشاطئ وكل واحدة منا معها شبكتها ونقوم بفرشها في المغرب أو بعد الفجر، كما نجمع الأصداف التي يجلبها المد على الشاطئ في سلال صغيرة ونقوم بإخراج اللحم منها وتنظيفها وتلميعه ومن ثم تجديله على شكل قلائد ويباع في الأسواق. وتشاركنا السيدة (حليمة) فتقول عن أسرار المهنة والصيد ومواسم السمك في الجزيرة: (هناك سمك عربي وسيجان وقاس وصعقة وبياض، ولكل نوع من هذه الأسماك له موسم وشهور معينة من السنة يأتي فيها للجزيرة). عشش وأكواخ البيوت في الجزيرة مبنية من الخشب والبعض القليل من البلوك ولكنه متهالك وهي أشبه بالعشش والأكواخ منها بالمنازل المريحة، وهي غير منتظمة، وبصورة متناثرة تحتاج إلى تخطيط وبعضها بدا غير مكتمل لعدم القدرة على إتمام البناء، فعائدات صيد السمك بالكاد تكفي متطلبات الحياة المعيشية للسكان، ولقد لاحظت ذلك عندما رأيت مبنى المطبخ غير المكتمل لعائلة أبو ماجد. حالات مرض زوج (أم ماجد) وزوج (أم عثمان) ملفتة للنظر، ولكن لأن طبيعة حرفة الصيد أصلا مهمة للرجال والنساء معا، فيبدو أن النساء واصلن في المهمة بعد توقف بعض أزواجهن بالمرض المقعد. وهي حالات تستدعي رعاية خاصة من المسئولين لمساندة ودعم مثل هذه الأسر التي بالكاد تعيش حياة على حافة الفقر لاسيما حاجتهم إلى الماء والكهرباء، فمصدر الماء في الجزيرة بئر واحدة قديمة قد لا تلبي حاجتهم إلى الماء خصوصا في الصيف، فضلا عن صعوبة نقل الماء من البئر. الرعاية الصحية وعن الرعاية الصحية تقول السيدة - هدية لها 5أبناء: "كان في السابق يأتي أحد الأطباء من وزارة الصحة كل يوم ثلاثاء للجزيرة للكشف على الأطفال ولإجراء تطعيمات معينة، وفي حالات الإسعاف أحيانا، لكن الآن انقطع مجيئه وأصبح السكان يعانون من الصعوبات مع أي حالة مرضية، فمنذ فترة بسيطة عندما وضعت السيدة عنبرة، حدث لها نزيف فاضطر زوجها لنقلها في فلوكة والذهاب بها إلى مستشفى فرسان العام، وتعبت هناك كثيرا نظرا لتأخر حالتها، كما أن هناك بعض المساعدات والمعونات من بعض فاعلي الخير كانت تصل للسكان من فرسان ولكنها لم تكن منتظمة. معاناة المعلمات السيدة (عنبرة) بدت أكثر اهتماما بأمر الوضع التعليمي في الجزيرة. فليس هناك سوى مدرستين ابتدائيتين فقط، لا وجود لمدرسة متوسطة، ولا ثانوية الأمر الذي يدعو إلى الاهتمام بحاجة هذه الجزيرة إلى عناية خاصة من المسئولين بشؤون التعليم، وعلى الأقل إضافة مدرسة للمرحلة المتوسطة، وأخرى للثانوية (بنين وبنات). ولقد انعكس إهمال الوضع التعليمي للجزيرة في عمل المعلمين والمعلمات بالمدرستين الابتدائيتين. تقول السيدة عنبرة عن هذا الوضع: أكثر ما يقلقنا هو إغلاق المدرستين الابتدائية "بنين وبنات" لقلة عدد الطلاب فيها فعدد الطالبات 9ونفس العدد عند البنين، كما أن المدرسين يأتون من فرسان صباحا ويرجعون ظهرا، ودائما ما يعانون من مشكلة التنقل اليومية في (فلوكات) صيد لا تنطبق عليها ضوابط السلامة البحرية ما يعرضهم للخطر اليومي ويكبدهم مخاطر يومية ومعاناة متواصلة، فهم لابد أن يقطعوا العديد من المراحل، ويستقلون للوصول إلى الجزيرة العديد من وسائل المواصلات، البرية والبحرية الوعرة، والتي تعرضهم للموت والخطر، وتواصل: في حال ارتفاع الموج والهواء العالي لا تبحر المراكب التي تحمل المدرسين والمدرسات فيضطر الطلاب لتوقف الدراسة إلى أن يعتدل الطقس وقد يستمر لأيام. وتذكر الشابة فاطمة لحادثة وقعت منذ زمن، حيث تعرضت مديرة المدرسة للغرق حينما سقطت في مياه البحر أمام زميلاتها في مشهد مروع ألا أن عناية الله أنقذتها. من ناحيتها قالت الشابة "مريم" التي أكملت الدراسة للصف الثالث ثانوي وتعمل إدارية بالمدرسة الابتدائية: (تضطر المعلمات للسير على أقدامهن يوميا مسافة تزيد عن كيلومترين ذهابا ومثلها إيابا لبعد المدرسة عن الشاطئ لعدم توفر سيارة لنقلهن داخل الجزيرة حتى أنهن يصلن إلى المدرسة وملابسهن قد أصابها البلل وتلوثت بالطين والطحالب. وبعد قضائي ما يقارب ثلاث ساعات مشيا على الأقدام مع نساء وأطفال قمّاح متنقلة بين المنازل والأزقة عرضت عليهن الرجوع إلى الشاطئ والعودة إلى جزيرة فرسان للّحاق بالعبّارة التي تقلع إلى مدينة جازان في الثالثة والنصف عصرا. صيد الطيور في طريق العودة إلى الشاطئ، لاحظت وجود أكوام من عصي الأشجار متراصة ببعضها يفصل بين كل كومة 300متر. تقول السيدة (سعدية فراج) عن هذه الأكوام: (وضعت بغرض صيد الطيور المهاجرة (موسم الجراجيح) حيث تأتي لمدة شهرين من كل عام أسراب كبيرة من الطيور لتتوقف للراحة على جزيرة قمّاح ولخبرة الأهالي ومعرفتهم بأن هذه الطيور تفضل الأماكن المرتفعة، لذلك توضع هذه الشباك وتوزع على غالب الجزيرة فيهب الكثير من السكان لصيدها، وذلك لطعمها اللذيذ والمميز ومن أنواعها أكحل وأخرس وعقوبي وقطام وسمان. أهازيج تقليدية ويبدو أن هذا التقليد عادة متوارثة منذ زمن قديم حيث يتجمع الناس حولها وينقرون دفوفهم وطبولهم يغنون ويرقصون معلنين بداية موسم الصيد ومن أغانيهم الشعبية:- أكحل قال يعقوبي شلوا بي وحطوبي في السطحة تهنوبي ما أسوى بروحي أكحل جيت لك عاني قد تركت خلاني وأنت ما تهنيني ما أسوي بروحي يا أكحل كيف تقهرني طول الليل تسهرني طربت لهذه الأهازيج التي سمعتها من نساء وأطفال جزيرة قمّاح، تعبيرا عن احتفالهن بالحياة، لكني مع ذلك شعرت بحزن عميق للوضع الذي يعيشون فيه. أرض الآباء والأجداد فهؤلاء المواطنون - وكلهم يحملون سجلات الأحوال المدينة - أقل ما يمكن أن يقدم لهم في مقابل حرصهم على الاستمساك بأرض آبائهم وأجدادهم ورغبتهم الصادقة في العيش الكريم من خلال إمكانات البيئة الشحيحة ؛ هو أن تلبي مطالبهم التي تسمح لهم بحياة كريمة قائمة على توفير الخدمات الضرورية من تعليم وخدمات وعلاج ومراكز تأهيل ومشاريع الأسر المنتجة، وغير ذلك من الخدمات الحكومية التي تتناسب مع نشاطهم في هذا الجزء الغالي من الوطن، هذا فضلا عن بعض البرامج والمنشآت السياحية المناسبة لبيئة تلك الجزيرة، كما أن طبيعة الحياة القائمة على الفطرة والبراءة ربما كانت سببا قويا من أسباب تذكيرنا بحياة حسبناها عبرت مرة وإلى الأبد.. طريق العودة طريق العودة لجزيرة فرسان كان صعبا فلم تكن أحوال الطقس مواتية مثل رحلة الذهاب، الرياح كانت عالية والأمواج عنيفة، حتى أن المركب اضطربت بشدة من قوة الموج وتمايلت بقوة يمينا ويسارا في عرض البحر مرتطمة بالمياه، فالمنطقة البحرية بين جزيرتي فرسان وقمَّاح عميقة وقد تصل لأكثر من سبعة أمتار ولولا فضل الله ثم خبرة (النوخذة) "أبو عثمان" والبّحار "أبكر" اللذين تعاملا مع الأمر بكل حنكة ومهارة، لما أمكننا أن نصل إلى شاطئ جزيرة فرسان بسهولة حيث أدارا دفة المركب نحو أقرب نقطة على الساحل لجزيرة فرسان لصغر عمق المياه هناك حتى وصلنا لشاطئ جنابه بأمان ويسر.