بينما كانت باكستان تدشن مرحلة جديدة من الاتجاه الإيجابي في طريق الحرية الطويل، كانت قوى الإرهاب - في الوقت نفسه - تقوم بعملية من أكبر العمليات الإرهابية في تاريخ باكستان القريب. في الوقت الذي كان فيه الرئيس المنتخب يتعهد أمام مواطنيه بالتصدي - بحزم - للإرهاب، كان الإرهاب يؤكد حضوره بقوة الإرهاب، وليس بأي شيء آخر. فالإرهابي يعرف أنه إرهابي وسفّاح، ومن ثم، يعرف أن التعهد بملاحقة المجرمين تعهد صريح بملاحقته. ولهذا سارع بالرد على خطاب مكافحة الإرهاب بتأكيد حضور الإرهاب. طوال التسع سنوات الماضية، كانت قوى التقليد تشكو من تضاؤل مساحات الحرية، وأن حكم العسكر حكم خانق لجميع القوى الفاعلة في باكستان. ومن لا يعرف كيف تفكر التقليدية، ويسمع منها مثل هذا الكلام، يتصور أنها تريد الحرية حقا، وأن مشكلتها مع النظام مشكلة اضطهاد أو مشكلة حريات. بينما هي - في الواقع - تريد (الفوضى) كي تمارس الجريمة الإرهابية من خلالها. ولهذا، لم يكن كل خطأ السنوات التسع الماضية؛ تراجع فاعلية المؤسسات القانونية والدستورية لحساب الفرد، فهذا خطأ واضح، وإنما كان الخطأ الكبير كامنا في عدم الإقدام - نتيجة عوامل ذاتية وموضوعية - على اجتثاث الإرهاب. لو كانت قوى التقليد صادقة في أن معارضتها الحكم السابق لم تكن إلا من أجل تراجع فاعلية النظام والقانون، لواجهت هذه الخطوة الديمقراطية الراهنة بارتياح، أو على الأقل، بالحياد التام؛ حتى يتضح إلى أين ستنتهي. لكن، ولِكون القوى التقليدية تعي ذاتها أكثر مما يعيها الآخرون، فقد رأت أن هذه الخطوة نحو بوابة الحرية، أشد عليها من ملاحقات الحكم العسكري لها، إبان المرحلة السابقة. فالحرية إذا ما حضرت وتعززت؛ تعني أن باكستان كلها ستكون ضدها، ولن تقاسمها تلك الشرائح المتنوعة العداء التقليدي للنظام، ولن يبقى لها شيء من فتات الروح والمادة؛ لتوقده شمعة في عالم الإجرام. فالمجرم - دائما - مع الفوضى؛ لأنها تمنحه فرصة الهروب، وضد الحرية والنظام؛ لأنهما يحاصرانه في نطاقه الخاص. من المحزن أن تفتتح باكستان مرحلة جديدة، من جدلية الضبط والحرية، بمثل هذا التفجير الإرهابي الآثم. وليست المأساة محدودة فيما نتج عنه فحسب، وإنما هو - كحدث سياقي - ذو دلالة على المضمر التقليدي في الواقع الباكستاني. وباكستان بلد إسلامي يعاني الفقر والجهل والتخلف، بحيث كان يجب أن تكون هذه الأشياء هي أولويات أي حكم فيه، تحضر الآن قوى الإرهاب لتجعل الأولوية لها، ولتتراجع الهموم المدنية التقدمية، وإشكاليات الحرية، لمصلحة المسألة الأمنية. وبهذا لا يكون الصراع سلمياً؛ يتغيا تنمية الإنسان، وإنما يصبح صراعا دمويا؛ يتجاذب حزمة من الأوهام. أينما انتشرت قوى التقليد والتشدد والانغلاق، ظهرت الصراعات الدموية، وتأزمت الأوضاع. صعود هذه القوى، يعني أن كل شيء: المجتمع ونظامه، في خطر. واستقرار المجتمعات وازدهارها، رهين بضمور هذه القوى وتلاشيها. وبإطلالة عابرة على المجتمعات الإسلامية، نرى أن هذه القوى التقليدية المتشددة الانغلاقية، أصبحت مشكلة المشاكل فيها، وأزمة الأزمات. فهي مشكلة ذاتية. ومهما كانت علائقها الخارجية، إلا أنها تنمو من الداخل، وتقتات على ما يوفره لها هذا الداخل من دعم مباشر أو غير مباشر. وكل بلد إسلامي، يدرك ذلك، ويعي حجم هذه المشكلة وذاتيتها. لكن، تختلف الحلول، وتغلب - على الجميع - حالة اللاحسم، في التعامل مع الجذور الفكرية لظاهرة الإرهاب. إشكالية المعالجات الفكرية، أنها تحاول - جراء موقف اللاحسم - إحلال منظومة تقليدية محل منظومة تقليدية أخرى، تظنها أقرب إلى الاعتدال. لكنها لا تنظر إلى الأهم، وهو قدرة هذه المنظومة - التي يتم تقديمها كبديل - على مواجهة مقولات التطرف والإرهاب. فمعظم المنظومات التقليدية تتقاطع مع مقولات التطرف الإرهابي، والبقية الأخرى منها، لا تمتلك الاتساق المنطقي الذي يكفل لها تبديد اتساقية مقولات الإرهاب. ولهذا، تبقى مقولات الإرهاب حاضرة وفاعلة؛ رغم كل خطابات التنديد والاستنكار. الإرهاب يتخّلق من خلال الكلمة. الإرهاب قبل أن يكون جريمة فعل، هو جريمة كلام. ومن هنا، فالصراع مع الإرهاب لا يمكن أن ينتصر إلا بوضع كل كلمة في العراء. لا يمكن أن يتراجع خطاب التقليد المؤسس لخطاب الإرهاب، إلا حين يتم تشريح مقولات التقليدية؛ دونما حصانة لأحد، بل لا يمكن مواجهة هذا الخطاب إلا حينما يتم تشريح ظاهرة (الصمت) الدال؛ إزاء مواقف ومقولات الإرهاب. فكما أن الإرهاب يتخّلق من خلال الكلمة، فإنه قد ينمو ويزدهر من خلال الصمت أيضا. فالصمت لغة في سياقه، وقد يؤدي إلى ما هو أخطر من لغة الكلام. لا خروج من خطاب الإرهاب إلا بالخروج من أسر خطاب التقليد. ما يقال عن حرمة دم المسلم والمُعَاهَد، لا أهمية له إذا ما أتى في سياق التقليد، كخطاب مواجهة مع الفعل الإرهابي. الفاعل الإرهابي يعرف - وربما أشد من التقليدي - هذه الحرمة ويعي قدرها. لكنه ينقض القاعدة من الأساس، وينتقل إلى حيث لا يستطيع التقليدي أن يحسم موقفه خلال النصوص. الإرهابي عندما يقتل الأبرياء، يقتلهم بمبررات مأخوذة من منظومة التقليد، مبررات ترى أن هؤلاء ليسوا مسلمين ولا معاهدين. ومن ثم، فليسوا أبرياء، بل هم - وفق منطقه - مجرمون، يتقرب إلى الله بقتلهم، ويرى هذا من أفضل القربات!. إشكالية الممارسات التقليدية المنفعلة بخطاب التقليد كإيديولوجيا، حتى التي ترفض الإرهاب، أنها - من حيث بنيتها العامة - تؤدي إلى أشد حالات الإرهاب عنفا؛ لأن البنية العامة للمقولات هي التي تحكم في النهاية. يؤكد هذا، أن معظم محاولات تجفيف منابع الإرهاب لم تحقق النتائج المأمولة، بل ربما ساعدت هذه البدائل التقليدية على تنامي التأييد الصامت للإرهاب. وكمثال، فإن حركة الإخوان المسلمين، التي يصنفها بعض الدارسين كامتداد لحركة التجديد التي قام بها الإمام: محمد عبده، وهي كبرى الحركات الإسلامية المعاصرة، وأكثرها مرونة في ظاهرها، كانت أول من عانى من عقدة التقليد؛ رغم أنها كانت تضع نفسها في سياق التجديد. فالنظام الخاص (= الجناح العسكري للجماعة) بني على طريقة تقليدية ساذجة، يتم تجنيد الكوادر فيه، على طريقة الجيوش والفرق السرية قبل ألف سنة، ويحكمه المنطق ذاته والأحكام ذاتها. وزاد الأمر سوءا، أنه جناح سري، يخضع - بالضرورة - لمقتضيات العمل السري. وقد سار - ومن ثَمَّ سار بالجماعة كلها، وربما بمصر أيضا - إلى هاوية الإرهاب؛ جراء كونه نظاما تقليديا في السياق المدني. ما يهمنا هنا، أن هذا النظام كان يتبنى الجهاد!؛ وفق نسقه في الخطاب التقليدي. ولهذا، قام بالاعتداء على كثير من المؤسسات المدنية بالقنابل (وقتل في هذه الاعتداءات الكثير من الناس) زعماً منه أن أصحابها يهود، وأن اليهود (عام 1948) في حالة عدوان على المسلمين. قُبض على بعض أفراد النظام الذين قاموا بالتفجيرات، وتم تقديمهم للمحاكمة، وحكم عليهم القاضي (أحمد الخازندار) بأحكام متفاوتة، كانوا يرونها قاسية؛ لأنهم يعدون أنفسهم أبرياء. لهذا بادر قائد النظام الخاص (عبدالرحمن السندي) بإصدار قرار بالانتقام، قرار بقتل القاضي الخازندار. فقتل أمام بيته، على يد أفراد من هذا النظام التابع للجماعة. ليست المشكلة هنا. المشكلة تظهر؛ عندما نرى ما هو المبرر (الشرعي!) لقائد النظام الخاص. حسن البنا، كقائد أعلى للجماعة، أيقن - بدهائه - أن هذا الفعل أكبر ضربة للجماعة، وقال: إن الرصاصة التي اخترقت جسد الخازندار اخترقت جسدي قبله. ولهذا، استدعى عبدالرحمن السندي قائد النظام الخاص لمساءلته - أمام بعض قيادات الجماعة - عن هذا الفعل الخطير. ودار بينهما هذا الحوار الذي يكشف عن طبيعة الفهم التقليدي، وعن كيفية تعامله مع نفسه ومع الآخرين! - قال الشيخ حسن البنا: من الذي أمر بقتل المستشار: أحمد الخازندار؟ - عبد الرحمن السندي: فضيلتك - البنا - مندهشا -: أنا؟! كيف؟! - السندي: عندما حكم القاضي على شبابنا، سألتك: ألا يستحق هذا المستشار القتل؟ فلم ترد عليّ، فاعتبرت أن سكوتكم موافقة على التنفيذ.. وأمرت بتنفيذ العملية. هذا مقطع مختصر من الحوار بين السندي ومفتيه. وهو حوار دال على أن لغة الإشارة والإيحاء، التي تحكم التواصل بين أفراد وجماعات الوعي التقليدي، لغة خطيرة، يجب الوعي بها عند المواجهة الثقافية الإرهاب. يتضح هنا أن الصمت قد يكون إرهابا دمويا في سياقه، أي دعوة تشريعية للإرهاب، فما بالك بالكلمة التي تمهد للممارسة الإرهابية بمنطوقها الصريح. لا زال هناك من يمسك على الزناد، وينتظر ولو شبهة فتوى من هنا أو هناك. ضحايا الخطاب التقليدي كثيرون. وهم - في سياقنا الراهن - مبرمجون وجاهزون، لتنفيذ إرادة الله؛ كما يزعمون!، ولكنهم - فقط - ينتظرون من يبلغهم بهذه الإرادة، ولو بالصمت البليغ!. هذا هو واقع الخطاب التقليدي. والسندي وقائده، وكل ذلك النظام، ليسوا خارج هذا السياق التقليدي. إن ما نحن بحاجة إليه، ليس إجراء تعديلات تقليدية ظرفية على هذا الخطاب التقليدي، وإنما نقل الوعي من خطاب إلى خطاب، بحيث يستحيل على أي تقليدي ممارسة فاعليته أصلا. وفي تقديري، فإن هذا لا يكون إلا بإحلال بديل ثقافي عقلاني، ينقذ الوعي الإسلامي الراهن من أسر خطاب التقليد.