يتحدد معنى التحديث في كونه ثورة على الواقع في راهنيته ، في كونه تجاوزاً للسائد التقليدي ، وانعتاقاً من الواقع النمطي المكرور ، يتجلى التحديث في كونه ثورة على التقليد ، لا ثورة بالتقليد ، ولا من خلال التقليد ؛ لأن التقليد من حيث هو كذلك يستحيل أن يمارس ثورة من أي نوع ، وفي أي اتجاه . إن الملايين التي تخرج بصدورها العارية لتواجه الرصاص الحي ، لتواجه الموت وجهاً لوجه ، لا تغامر بأرواحها من أجل مسائل هامشية ، وإنما هي تفعل ذلك من أجل ما هو أغلى عليها من حياتها . إنها تغامر بحياتها من أجل كرامتها المرتبطة ضرورةً بحريتها ، وبحقها في تحديد خياراتها المستقبلية عبر وسائل التمثيل الديمقراطي الحر التقليد هو ترسيخ وتطبيع ، بل وتقديس لواقع الحال ، بغية أن يكون هذا الواقع صلبا وقويا وقادرا على الصمود أمام كل محاولات التغيير . إذن ، كيف يكون الإمعان في اللاتغيير تغييراً ، كيف يكون الجمود حركة ، وكيف يكون السعي الحثيث إلى الوراء ، إلى الماضي العتيق ، سعياً إلى الأمام ، إلى الحاضر والمستقبل ، حيث الأمل المنشود ؟! . لم تعد الحرية بكل ضروراتها ولوازمها ترفاً كما كان يُنظر إليها من قبل ، لم يعد العربي يبحث عن مجرد لقمة تسد رمقه ، لم تعد مستويات المعيشة المتدنية هي المحرك الأول لهؤلاء الغاضبين على امتداد العالم العربي ، بدليل أن النشطاء في هذه المسيرات الغاضبة ليسوا أفقر الفقراء بل وليسوا في أغلبيتهم من الفقراء ، وإنما هم من ذوي الدخل فوق المتوسط ، أي من أولئك الذين قطعوا شوطا في مسيرة الوعي بالحرية ، دون أن تستهلكهم ضروريات الحياة . إن الملايين التي تخرج بصدورها العارية لتواجه الرصاص الحي ، لتواجه الموت وجهاً لوجه ، لا تغامر بأرواحها من أجل مسائل هامشية ، وإنما هي تفعل ذلك من أجل ما هو أغلى عليها من حياتها . إنها تغامر بحياتها من أجل كرامتها المرتبطة ضرورةً بحريتها ، وبحقها في تحديد خياراتها المستقبلية عبر وسائل التمثيل الديمقراطي الحر الذي أصبح أملًا يُراود كل بني الإنسان. إن الحرية التي تجد مَأسَسَتها في الأنظمة الديمقراطية الحديثة ، كانت هي الهدف الجوهري لهذه المسيرات التي تبذل فيها الأرواح ، وليس أي شيء آخر ، حتى وإن حاول الانتهازيون فيما بعد تكييف بعض المسيرات ؛ لتكون تعبيرا عن هموم الحركات السياسية التقليدية التي ينتمون إليها ، أي من أجل أن تتحول تلك المسيرات من شموليتها الوطنية التي تتغيا الوطن بأكمله ، إلى مطالب وهموم ومصالح فئوية حزبية ضيقة تتنكر لمستقبل الوطن الواحد ، الذي هو وطن الجميع على حد سواء. لكن ، مشوار الحرية ملتبس في بلاد العرب . فهذه الجماهير العاشقة للحرية اليوم ، والتي أصابتها عدوى الحرية نتيجة المثاقفة الإعلامية مع الآخر ، هي جماهير لا تزال غارقة في مستنقع التقليدية الآسن المُعادي بضراوة لكل تجليات الحرية ، بوصفها (= الحرية) خروجا تمرّديا عن خط الاتباع . لا تزال هذه الجماهير تطلب الحرية بعشق ، ولكنها لا تعرف لماذا لا تصل إليها ، لماذا تتأبى عليها شروط الحرية ، وكأنها (= الحرية) محرمة عليها بحكم الطبيعة أو بحكم الشرع أو بحكم الواقع ؟!. هناك سؤال جوهري لابد من طرحه في سياق مسيرات البحث عن الحرية : كيف تطلب الحرية ، ثم كيف تصل إليها ، وأنت غارق في ثقافة تقليدية تعادي الحرية صراحة ، ثقافة متسامحة مع الطغيان ، ثقافة لا تقيم أي اعتبار للإنسان ؛ حتى وإن زعمت أن الإنسان من ضروراتها الخمس التي تأخذها بعين الاعتبار ؟! . التقليد هو الفعل المضاد للحرية ، التقليد هو السير وجوباً على طريق مطروق سلفاً ، طريق لا يحق لك أن تتنكبه إلى طريق آخر ، لايمكن أن تختار عليه طريقا آخر تبتدعه أو تخترعه أو تُغامر بتجريبه . التقليد هو : التسليم الأعمى ، أي التنازل الاختياري عن الحرية لصالح وعد طوباوي بالوصول إلى الغاية الأسمى من أقصر طريق . طبيعي أن يكون التقليد غباء ، وأن تكون التقليدية في كل صورها هي التجلي الأوضح لأردأ صور الغباء . التقليدي يغتبط بالتقليد ، يجد راحته في الاتباع الأعمى الذي يُريحه من عناء التفكير . إنه لا يريد التفكير ، بعد أن تم إيهامه بأنه لا يستطيع التفكير ؛ فصدّق الوهم إلى أن أصبح الوهم حقيقة ، وبدت جماهير التقليدية بعد هذا وكأنها مجموعة من البُله التي لا تجد ذاتها، ولا سعادتها، ولا طمأنينتها إلا في التسليم الأعمى لما يقوله رجال الكهنوت . مصر اليوم تبحث عن حريتها . الجماهير هناك تهيم بالحرية وبكل ما ترى أنه يمكن أن يصل بها إلى ضفاف الحرية النائية . كما وأنها تستشرف غداً أفضل على كل المستويات ، ولدى شرائح عريضة منها استعداد واضح لتقديم التضحيات تلو التضحيات في سبيل الخروج من أزمنة القهر والإذلال . هذا أمل كبير ، لكن ، كيف يمكن أن يتحقق هذا الأمل الكبير ، والجماهير العريضة التي تمثل الإرادة العامة للأمة لا تزال تميل إلى الانفعال بخطاب سدنة الأوهام أكثر من انفعالها بأي خطاب آخر ؟! . قبل ثلاث أو أربع سنوات ظهرت في مصر بعض القنوات التقليدية الأثرية الممعنة في التقليد ، وظهر عليها شيوخ التقليد الذين لم تكن الجماهير تسمع بهم من قبل إلا في نطاق ضيق جدا . لكن ، بعد بضعة أشهر من ظهورهم أصبح هؤلاء نجوماً في فضاء الإعلام المرئي ، ووصل عدد مشاهدي بعض البرامج التقليدية التي يقدمها هؤلاء الشيوخ إلى عشرات الملايين (تذكر بعض الأرقام ستين مليوناً من مستقبلي الإرسال) ، وأصبحت زيارة بعض هؤلاء إلى أي مكان كفيلة بإغلاق بعض الطرق الكبرى القريبة من موقع المحاضرة ؛ نتيجة الازدحام الشديد من قِبل جماهير التقليد الأعمى ، التقليد الممعن في تقديس الأشخاص ، بل وفي تصنيم الأشخاص ؛ مع زعمه الكاذب أنه الأبعد عن التقديس والتصنيم . القنوات الفضائية التي استضافت هؤلاء ، ونتيجة لهذه الجماهيرية الطاغية ، أصبحت مكاسبها بالملايين شهرياً ، ولهذا منحت هؤلاء الشيوخ مرتبات شهرية بعشرات الألوف (بعض هؤلاء الدعاة الزهاد ! ، كان يأخذ شهرياً على برنامج فضائي واحد أكثر من عشرة آلاف دولار) ، ولم يكن هؤلاء الرموز أغبياء في ما يخص الدرهم والدينار ، بل أدركوا أن (سمنهم لابد أن يكون في دقيقهم) فأنشأوا قنوات تقليدية خاصة بهم ، درّت عليهم الملايين ، وروجت بطريقة غير مسبوقة للخطاب التقليدي في مصر ، مصر التنوير ، وزادت من شعبيتهم الجارفة التي باتت خطراً على مستقبل مصر ، بل وعلى حياة المصريين . يُشكّل هؤلاء التقليديون اليوم خطرا كبيرا على المستقبل السياسي لمصر ، بعد أن أصبحوا قوة جماهيرية متنامية تستطيع التأثير في مجمل الخيارات التي ستصنع المستقبل القريب . خطورة هؤلاء لا تأتي من كونهم أعداء الحرية ومُكفّري الديمقراطية فحسب ، وإنما أيضا من كونهم تجّار مصالح حزبية وفئوية ومذهبية ضيقة ، بل ومصالح فردية تظهر أشد ما تظهر في المنافسة الشرسة الملتهبة بالغيرة بين هؤلاء الرموز أنفسهم ، بعد أن أصبح أتباعهم بالألوف ، وأرباحهم بالملايين. هذه المصالح ، وهذا المعترك التنافسي غير الشريف ، كشف عن كثير من الخبايا والأسرار . أصبح بعضهم يفضح بعضاً علانية ، وخاصة في الجانب المادي الذي لم تتصور الجماهير التقليدية البائسة أنه المعترك الحقيقي لهؤلاء الزهاد !. أحدهم ، وهو من أشهرهم ، يُقسم في برنامجه الفضائي أمام ملايين المشاهدين ، أنه لا يأخذ على برنامجه جنيهاً واحداً (أي أنه يقدم برنامجه خالصاً لوجه الله!)، بعد أن سأله أحد المشاهدين عن مقدار ما يأخذه . وعندما يسمع أحد موظفي القناة هذا الكلام يُصدم بكذب الشيخ ، ويسأله بصراحة : ألم تستلم قبل قليل مرتبك الشهري : عشرة آلاف دولار ، فيجب : أنا أقسمت على الجنيه ، ولم أقسم على الدولار !!. مع هذا ، ليست الأزمة أزمة نزاهة فحسب ، أي ليست في أن هؤلاء يحلفون كاذبين أو يستغلون جيوب البسطاء المساكين ، بل هي إضافة إلى ذلك أزمة جدارة ، أزمة وعي معطوب . التيار التقليدي الذي بدأ في النزول إلى الساحة السياسية ، محاولًا فرض خياراته ، لا يزال معطوب الوعي ، لا يزال خارج الزمن الذي يريد الاشتغال فيه ، لا يزال ينتمي ، لا إلى ماضٍ سحيق فحسب ، وإنما إلى تصوّر موهوم عن ذلك الماضي السحيق . كيف يمكن أن تتقدم أمة تتماهى مع خطاب التقليدية الذي يعود بها قروناً إلى الوراء ؟!. التقليديون يُمثلون ظاهرة عطب ، بل ومؤشر خبل عام ، فكيف يتخذهم المجتمع مراكب نجاة ؟!. ليس هذا اتهاماً من فراغ ، بل هو ما تنضح به الخطابات المعلنة لرموز التقليدية هنا وهناك . مثلًا ، أحد أبرز وأشهر رموز التقليدية الاتباعية في مصر (=أبو إسحاق الحويني ) يطرح رؤيته لحل مشكلة الفقر ، وما أدراك ما مشلكة الفقر في مصر ؟! . الحويني يرى الحل لهذه المشكلة المستعصية سهلًا . كيف ؟! . يقول الحويني (= مُفكر التقليدية الأكبر في مصر) صراحة ما نصه بعاميته كما هي : " أظلنا زمن الجهاد ... إحنا هو الفقر اللي إحنا فيه إلا بسبب ترك الجهاد ، مش كنا لو كل سنة عمالين نغزو مرة أو اثنين أو ثلاثة مش كان حيسلِم ناس كثيرون في الأرض ، واللي يرفض الدعوة ويحول بين دعوة الناس نقاتله ، ونغزوه ، ونأخذهم أسرى أولادهم ونساؤهم ، وكل ده عبارة عن فلوس ، كل واحد مجاهد كان بيرجع من الجهاد وجيبه مليان ، جاي معاه ثلاثة أو أربعة أشحطة (= رجال ضخام أقوياء ) وثلاثة أو أربعة نسوان ، وثلاثة أو أربعة أولاد ، اضرب كل راس بثلثمية (= 300) درهم أو ثلثمية دينار ، راجع بمالية كويسة ، لو هو راح عشان يعمل صفقة تجارية في بلاد الغرب عمره ما يعمل الأموال دي ، وكلما يتعسر ياخذ راس يبعها ويفك أزمته ...إلخ " . هذا بالنص ما قاله رمز التقليدية الأكبر : الحويني حلًا لمشكلة الفقر ! (يمكن مراجعة النص على اليوتيوب : الحويني مشكلة الفقر) . طبعا ، التعليق على هذا النص يحتاج لأكثر من مقال . لكن ، ما يهمنا هنا ثلاثة أمور : 1 النص هنا ليس هامشياً ، بل هو لأحد أكبر رموز التقليدية في مصر على الإطلاق ، ومَن له أتباع خارج مصر بالملايين ، ومكانته الاعتبارية داخل منظومة التقليد لا يستهان بها . فلا يمكن التخفيف من مسؤولية التقليدية كلها عن هذا الكلام ، لا يمكن الاعتذار عنه بأنه تصرف فردي لا يعكس وجهة نظر التيار العام ، بل الصحيح أن هذا التصريح هو الأصل ، وما سواه إن وُجد الاستثناء ، بدليل أن أحداً من رموز التقليدية لم يرد على هذا الكلام بما يدحضه من الأساس . 2 النص هنا ليس كلاماً في مسألة دينية خالصة محصورة في نطاق الخيارات الفردية ، بل هو نص يطرح رؤية اجتماعية سياسية عامة . إنه (= النص / صاحبه) يريد حل مشكلة وطنية كبرى ، والحل واضح هنا : غزو الغرب ، واسترقاق رجالهم ونسائهم وأطفالهم ، ومن ثم بيعهم كما يباع الحيوان . فالمسألة عنده قابلة للتطبيق إلى أقصى حد ، وليست مجرد نظرية حالمة ، أو حتى مجرد تبرير لشيء ما في تاريخنا المجيد. 3 التعاطي مع الإنسان برؤية معادية أقسى ما يكون العداء للإنسان . فالأسرى سيبيعهم كالحيوانات ، واللغة واضحة في هذا ، فكل مجاهد كما يقول سيرجع من الغزو ومعه عدد من الأسرى الذين سيبيع منهم (رأساً) كلما احتاج إلى المال ، وكأنه يمتلك قطيعاً من الأنعام! لقد كان هؤلاء التقليديون قابعين في حوزاتهم الخاصة ، يتداولون جنونهم فيما بينهم ، ولم يكونوا يتقدمون صراحة بمشاريع سياسية عامة تتماس مع الخيارات الكبرى في حياة الناس . لكن الآن ، وبعد أن انفتح الفضاء الديمقراطي على مصراعيه ، تقدموا بأنفسهم في ساحة المنافسة السياسية ، ولكن بمثل هذا الوعي . وليست المشكلة هنا متحددة في مأساوية هذا الطرح ، بل المشكلة أن أمثال هؤلاء ، وبمثل هذا الطرح ، يحظون بثقة الجماهير التي سرعان ما تستجيب لأي مخادع باسم الدين . أي أن هؤلاء ، وبمثل هذه الرؤى المدمرة ، يمكن أن يصلوا إلى بعض مراكز اتخاذ القرار ؛ فيصبح عصر مبارك الذي هرب منه الناس عصراً مرحوماً ؛ مقارنة بالمستقبل الاستعبادي الاسترقاقي المدمر الذي يعِد به هؤلاء البؤساء.