يحاول الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه الموسوم ب (العرب والسياسة .. أين الخلل)، أن يبحث في التركيب المجتمعي العربي عن الداء السياسي المزمن، الذي يحول كل تجربة سياسية إلى تجربة فاشلة في أدائها السياسي والإداري والقيادي، أو في تلبية تطلعات الأمة الحضارية. والمفارقة الأساسية التي يشير إليها الكاتب في هذا الصدد، هي في أن هذه العناصر الوطنية والشعبية الحاكمة، التي يكشف أداؤها السياسي عن هذا المستوى، كان بعضها على الأقل مناضلا قوي المراس في المعترك الوطني. وأنه لم تنقصه الشجاعة والتضحية في هدم ما لا يريد من حكم أجنبي أو تقليدي، لكن أعوزته المقدرة والبراعة والحنكة والحصافة والأخلاقية، في بناء ما يريد من دولة وطنية أو قومية أو دينية، عندما تصدى لقيادة وإدارة عملية البناء أو المحافظة عليه. ومرد هذه الإشكالية ليس الصدفة، أو في القصور في كفاءة الإنسان العربي وهو يتعاطى الشأن السياسي فكرا وممارسة. وإنما مرد هذه الظاهرة إلى غياب البناء السياسي الحقيقي في الفكر العربي، حيث أن النخب السياسية في الوطن العربي، ومنذ الحقبة الاستعمارية وإلى الآن كانت تعتمد في تسيير أمورها المحتاجة إلى الدعم الشعبي، إلى التعبئة العاطفية والحماسية للجمهور لتمرير سياساتها أو خياراتها الإستراتيجية. ولا ريب أن العاطفة والحماسة لهما دور رئيسي في إقناع الجمهور بالخيارات السياسية، أو المشروعات السياسية الداخلية والخارجية. ولكننا نرى أنه من الخطأ بمكان الاتكاء على هذه العاطفة، والتعويل على الحماسة الشعبية في كل الظروف والمواقع السياسية. بمعنى أن تمرير أي مشروع سياسي بحاجة إلى الشعارات الداعمة، والحماسة الشعبية التي ترفده بالزخم الجماهيري الهائل . ولكن الاكتفاء بهذه الحماسة العاطفية في تمرير المشروع السياسي، يؤدي به في الكثير من الأحيان، إما إلى الفشل أو جمود المشروع وتكلسه. ولعل الذي حدث في التجربة السياسية العربية، هو التعويل المطلق على حماسة الجمهور في تمرير السياسيات أو المشاريع، دون العمل على بلورة مدرسة سياسية عربية، تأخذ على عاتقها بناء المواطن العربي سياسيا، حتى يتحول كل مواطن عربي إلى فاعل في المحيط السياسي، بما يخدم بذلك أمته ووطنه. ففي الحقبة الناصرية، كان الحضور الشعبي عارما وفعالا، ولكن النخبة السياسية الناصرية آنذاك استفادت من هذا الحضور في حدود التأييد أو الرفض (بالتصفيق المجرد في كلتا الحالتين)، وتحريكه عند الضرورة بما ينسجم والمصلحة السياسية السائدة. دون أن تستفيد هذه النخبة، من ذلك الحضور الشعبي في تعميق الوعي السياسي، وبلورة مدرسة سياسية عربية، تأخذ على عاتقها مأسسة ذلك الهياج الجماهيري الهائل بما يخدم مصلحة الأمة حاضرا ومستقبلا. كل هذا يكشف لنا بوضوح، أن الإشكالية الحقيقية، تكمن في غياب المدرسة السياسية العربية، ذات المعالم الواضحة، والمتسقة ومصالح الأمة وتطلعاتها الاستراتيجية. ولا شك أن وجود شخصية قيادية (كاريزمية)، لها التأثير المباشر في فعالية وحيوية النسيج المجتمعي العربي، ولكن اتكاء العرب المطلق على هذه الزعامات الكاريزمية، هو الذي عطل بشكل أو بآخر فاعلية النسيج المجتمعي في الفضاء السياسي. إذ تواكل هذا النسيج، وألقى كل الثقل والعبء، على القدرات الفذة التي يمتلكها الزعيم الكاريزمي. وبهذا أصبح فضاؤنا المجتمعي هشا، لا يستطيع أن يحرك ساكنا ولا يمكن أن يبادر للقيام بأعمال ومبادرات لتطوير التركيب المجتمعي. وفي التاريخ الأوروبي حينما ابتليت الشعوب الأوروبية بالقيادات الكاريزمية التي اختزلت الدولة والمجتمع في شخصها وكيانها الخاص الضيق فإنها أدخلت الشعوب الأوروبية في نفق الحروب والصدامات العسكرية التي لا تنتهي . ولقد أفضت تلك الحقبة من التاريخ الأوروبي إلى حربين عالميتين دمرتا انجازات الإنسان كلها . لهذا فإن هذه الإشكالية تعالج، حينما يمارس النسيج المجتمعي دوره الفعال في مضمار السياسة . لأن الزعامات السياسية الفريدة وحدها لا تستطيع عمل كل شيء في عالم يتجه في كل أموره وقضاياه إلى التكتل والمأسسة. وإنما ينقص العرب ويعمق الإشكالية السياسية التاريخية في واقعهم هو غياب ذلك النسيج المجتمعي الذي يعتبر السياسة بالمعنى العام واجبا من واجبات المواطنة الصالحة. لهذا فإن القصور الجوهري والذي يغذي هذه الإشكالية ويمدها بأسباب الحياة والتمدد هو نوعية التطور السائد في الواقع المجتمعي فيما يرتبط بشأن السياسة فكرا وممارسة . وليس غريبا لمن يهرب من هذه الإشكالية أن يصبح هو ضحيتها التاريخية . ولهذا نجد أن مجتمعاتنا العربية وفي فترات زمنية مختلفة كانت ضحية هذه الإشكالية . لهذا فإن ضعف التمأسس المجتمعي وبطء وتيرته، ألغيا فعالية الكثير من الجهود والطاقات التي بذلتها الشعوب العربية في سبيل إنهاء هذه الإشكالية والخروج من آسراها التاريخي . ومن المؤكد أن مأسسة السياسة هي البوابة الطبيعية للخروج من هذه الإشكالية والمأزق التاريخي. والمأسسة تعني تعميق البعد الإستراتيجي في المتغير السياسي، بحيث تصبح السياسة ذات تقاليد مجتمعية راسخة وعميقة الجذور في النسيج المجتمعي . وبهذا يصبح الأداء السياسي فعالا ومقتدرا، ويعتمد على قاعدة مجتمعية تمده باستمرار بالكفاءات البشرية والآفاق الحضارية. وكلما تسارعت وتيرة التغير والتحولات الإقليمية والدولية، وجب العمل على التنمية السياسية تقليلا من نسبة الفشل، ولكي يتبوأ المجتمع العربي موقعا متميزا في خريطة المجتمعات الإنسانية . فالإخفاقات التي منيت بها الساحة العربية في الكثير من المجالات كان للسياسة (( بمعناها العام)) الدور المركزي في ذلك. إذ أن المجتمعات العربية وفي حقب الصعود والمد، لم تسع لتوظيف هذا الصعود العاطفي والمد الحماسي في تعميق قيم ومبادئ وخيارات استراتيجية، تؤكد وتؤدي إلى الحضور الدائم لهذه المجتمعات في ميدان صناعة المصير والمستقبل. ولا شك أن تحليلات الدكتور الأنصاري في كتابه المذكور أعلاه وغيره من الكتب التي تناقش المسألة السياسية في الفكر العربي، وتسعى بأدوات علمية إلى تحليل ظاهرة الإخفاقات العربية، قد وفق إلى حد بعيد في الإمساك بجذر أو جذور الخلل وستبقى الانتكاسات والإخفاقات حاضرة في واقعنا العربي ما دام هذا الخلل موجودا. وإن سبيل تجاوز الانتكاسات والإخفاقات يبدأ بإزالة عناصر الخلل بين العرب والسياسة.