عندما تهل على مسامعنا كلمة (الفقر) ينكسر القلب مباشرة من دون أية مقدمات ونعطف على صاحب تلك الكلمة. ولكن.. هل تمعنا في مفهوم الفقر وتفحصنا أسبابه وما يترتب عليه من سلبيات وايجابيات إن وجدت؟ هل يستحق كل هذه الشفقة أم يستحق نظرة أكثر واقعية وشمولية؟ أسئلة وجدتها تستحق الكتابة والطرح وإعطاء الفكر فرصة للمناقشة والتمحور حولها. الفقير لم يولد فقيراً، والغني لم يولد غنياً ولكنه رزق الله يقسمه على من يشاء من عباده. فأمر أن الرزق والقسمة بيد الله يجعل من يشاء فقيراً ويجعل من يشاء غنياً أمراً مسلماً فيه، ولعل لاختلاف قسمته حكمة وهي أن الله يختار الخيرة دائماً لعبده إما للابتلاء وللاختبار في حياته وإما لأن ذلك الصالح والمناسب لحياته. والله أعلم. (الفقر ليس عيباً) جملة ترددت على مسامعنا كثيراً ولا غبار عليه وهي بطبيعة الحال يقصد بها (الفقر المادي). الفقر مدرسة الإنسان بشكل عام والمقطوع الحيل بشكل خاص أي الذي لا يملك وسيلة تنتشله من فقره وعوزه. الفقر يجعل صاحبه يفكر ويستغل مهاراته ويبحث ويفتش ويفجر الطاقات الكامنة والامكانات اللازمة. فإن كان فقيراً بكل ما تحمله الكلمة من معنى أي فقيراً بماله وبجاهه وفقيراً بعلمه وثقافته وفقيراً بدينه ووطنيته فلا حول ولا قوة لنا إلا بالله من فقر كهذا ومعنى ذلك ليس لحياته معنى أو وجود والموت أكرم له من بقائه. من أصعب أنواع الفقر التي ذكرت أن يصبح الإنسان فقيراً بدينه وإيمانه يصبح موقعه متربعاً على قمة هرم الفقر وتتوالى من أعلاه كل معاني الفقر الأخرى التي ذكرنا لأنه بايجاز من خسر إيمانه خسر معه كل معاني العز والغنى وتملكه كل معاني المعنى المضاد وهي كل معاني الفقر. نعلم جيداً أن كل شيء في الحياة له سبب ولكل فعل ردة فعل، فمن بعد رزق الله هناك أسباب تجلب الرزق أو تقصيه ولو استعرضنا بعضاً منها بلمحة خاطفة: - العمل الخالص لوجه الله سبحانه وتعالى أحد تلك الأسباب وأهمها وهي العمل لوجه الله لا جزاء ولا شكوراً لا ننتظر الثناء من العباد ولا نحتسب الشكر من غيره. ثم النية الصادقة لقوله تعالى: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل أمرئ ما نوى). - الصدقة وحب المنفعة للغير تزيد الرزق وتجلب السعادة في قلب صاحبها: "ما نقص مال من صدقة بل تزده بل تزده". - العلم والاستزادة من منهل العلم الباعث الحقيقي لتطوير النفس وعلوها وازدياد همتها وشرفها: فالعلم يبني بيتاً لا عماد له والجهل يهدم بيت العز والشرف ومما قيل في الجهل: ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً تجاهلت حتى ظن أني جاهل (أبو العلاء المعري) فقر الجهول بلا عقل إلى أدب فقر الحمار بلا رأس إلى رسن (المتنبي) ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجاهلة في الشقاوة ينعم (المتنبي) - الوعي بأهمية الحياة وتكوين النجاح يعد أيضاً من أهم أسباب الغنى بعد قسمة الله فغني العلم والمعرفة تجده غني الإيمان، غني النفس والمال، غني الصحة، "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون". حقاً بدون العلم لا نستطيع جلب ركائز الحياة الأساسية وهي (المال والصحة والدين). ونعود مرة أخرى إلى الفقير ما الذي جعله فقيراً؟ ستجده إما أنه لا يملك بالدرجة الأولى: - العلم الذي يؤهله لمجابهة الحياة وأخذ قسمته ونصيبه ومستحقاته من الحياة كاملة. - وإما أنه لا يملك الصحة والعافية اللتين تجعلاه قادراً على تأديه وظيفته في الحياج. - وإما أنه يملك العلم والصحة والعافية معاً ولكنه لا يملك الإرادة والعزيمة والطموح ورضي وفضل أن يبقى في مكانه يستجدي عاطفة الآخرين وينتظر مد أيديهم إليه. ومما قيل في الإرادة: ولا بد لليل أن ينجلي ولا بد للقيد أن ينكسر (أبو القاسم الشابي) على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم (المتنبي) وتعظم في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم (المتنبي) ومما قيل في العزة والشرف: عش عزيزاً أو مت وأنت كريم بين طعن القنا وخفق البنود (المتنبي) وعن أسباب الفقر في دول العالم الإسلامي يمكن تلخيصها في ما يلي: @ البعد عن الآداب الإسلامية التي حث عليها خاتم الأديان التي منها الحرص على حفظ النعمة والاعتدال في الإنفاق من غير إفراط ولا تفريط. @ الانخفاض الملاحظ في مستوى التعليم وقلة الخبرات الفنية في كثير من الأقطار الإسلامية مع قلة السعي وانخفاض الجهود المبذولة لتحسين الإنتاج وزيادة درجة الانتاج. @ التشرد الذي يعانيه كثير من المسلمين الذين تركوا أوطانهم لاضطراب الأوضاع وفقدان الأمن فيها إذ إن هناك الملايين من المسلمين الذين يعيشون حياتهم لاجئين في بلاد مجاورة كما هو الحاصل في نزوح المسلمين من تشاد وأوغندا والصومال واريتريا والحبشة. @ عدم استقرار الأوضاع السياسية في بعض الأقطار مما يتسبب في فقدان كثير من الطاقات والثروات في إعادة الإصلاح والإعمار والبناء. @ فقدان التعاون الاقتصادي فيما بين الأقطار الإسلامية إذ إن كل بلد إسلامي لا يستطيع وحده توفير الامكانات اللازمة للتنمية من أراض ومواد أولية وأيد عاملة وخبرات فنية وسوق محلية واسعة مما يعني ضرورة وجود تكافل وتكامل فيما بين هذه الأقطار. @ وجود نوع من التبعية الاقتصادية للدول الصناعية الكبرى التي تستغل ثروات العالم الإسلامي. الفقر ليس عيباً نعم ولكن العيب الاستسلام للفقر وعدم الأخذ بالأسباب المنجية منه. إن وفرة الغذاء ليست هي المشكلة، وعملية تحسين الإنتاج وزيادة كمياته ليست هي فقط الحلول ولكن المحافظة على الإنسان وتمكينه من استهلاك وشراء هذه السلع هما المطلوبان. إن النظام الاقتصادي يعد خالياً من آليات التوزيع والاستفادة منه، وذلك هو الحل الوحيد لكل المشكلات الاقتصادية العالمية. ويعد الإسلام هو الحل البديل لمشكلة الفقر في العالم، ذلك الحل الذي هو من صنع الله وليس من قبل أي من البشر.. والإسلام يرى أن الفقر هو أن يكون الإنسان محتاجاً أي أنه لا يملك ما يحتاجه لكفاية ذاته وأما الفقير في الشرع: فهو ذلك المحتاج الذي يمر بوقت عصيب ولكنه لا يمد يده للسؤال.