إذا قلّ عقل المرء قلّت همومهُ ومن لم يكن ذا مُقءلَة كيف يُبصرُ؟! (الفرزدق) هَني دبّ طول الايام نايم ماله حذا ما حط بالبطن حاجه! (طلال الدغيري) * رَبَطَ كثيرٌ من الشعراء في القديم والحديث، في الشعر الشعبي والفصيح، بين السعادة والغباء، وبين راحة البال وقلة العقل، فهم يرون أن الغبي قليل الهموم، وأن من قَلّ عقله عاش في نعيم! يقول أبو الطيب المتنبي: أفاضلُ الناس أغراضٌ لذا الزمن يخلو منَ الهمِّ أخلاهم من الفطَن وإنما نحنُ في جيل سواسية شرٌّ على الحُرِّ من سُقءم على بَدَن حولي بكُلِّ مكان منهُمُ خلَقٌ تُخءطي إذا جئتَ في استفهامها بمَن؟! ومن المعلوم أن الاستفهام (بمن) في النحو للعاقل، و(بما) لغير العاقل!! ويُنءسَب للجاحظ هذا الشعر: تحامق مع الحمقى إذا ما لقيتَهُمء ولاقَهُمُ بالجهل فعءل ذوي الجهل وَخَلِّطء إذا لاقيتَ يوماً مُخَلِّطاً يُخَلِّطُ في قول صحيح وفي هَزءل فإني رأيتُ المرءَ يشقى بعقله كما كان قبل اليوم يَسءعَدُ بالعقل! ويذكرني هذا بالمأثور الشعبي: "ما ودك الاّ تخط العقل بهبال"!! قلت: واصدق من هذا وذاك الحكمة العربية التي تقول: "أسعد الناس أقلُّهُم انشغالاً بالناس"! @ @ @ وحتى لدى الغربيين نفس الانطباع، وهو ربط السعادة بالغفلة والغباء، وربط الشقاء بالفطنة والذكاء، يقول المثل الفرنسي: "الشقاء في العقل والسعادة في الجهل"! ويقول المثل الايطالي: "خيرٌ لك أن تكون سعيداً من أن تكون حكيماً"! ويقول الأمريكان: "السعادة معدة قوية وذاكرة ضعيفة"! ويقول الشاعر العربي: كم عاقل عاقل أعيت مذاهبُهُ وجاهل جاهل تلقاهُ مرزوقا وفي رواية "كم عالم عالم".. قلت: والأرزاق بيد الله عز وجل وكذلك السعادة أو الشقاء ولكننا مأمورون بعمل الأسباب، والجاهل الذي عناه الشاعر تلقاه خبيراً بالعمل الذي يكسب منه ومجتهد فيه وإن جهل كل شيء غير عمله فذلك يكفي لجلب رزق وفير مع التوفيق.. @ @ @ ويقول الشاعر: من رُزقَ الحُمءقَ فذو نعمة آثارها واضحةٌ ظاهرة! وأظنه يسخر!.. ولكن المتنبي يقول جاداً: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة يَنءعَمُ ويقول: تصفو الحياةُ لجاهل أو غافل عمَّا مضى منها وما يُتَوَقَّعُ وَلمَنء يُغَالطُ في الحقيقة نفسَهُ ويسومها طلب المحال فَتَطءمَعُ والبيت الأخير غير صحيح فمن رام المحال وجد الشقاء، ومن عرف الطمع ذلّ وتعس، فإن الطمع يجعل الأغنياء فقراء، والسعداء أشقياء.. ويقول ابن نباتة السعدي: ما بالُ طَعءم العيش عند معاشر حُلءوُ، وعند معاشر كالعقلم؟! من لي بعيش الأغبياء فإنَّهُ لا عيش إلا عيشُ من لم يَعءلَم! ويقول آخر: وأخو الدراية والنباهة مَتءعَبٌ والعيشُ عيشُ الجاهل المجهول! ولعبدالعزيز بن زُرارة: رأيتُ الحظّ يستر كُلَّ عيب وهيهات الحظوظَ من العقول! وابن المعتز يقول: وحلاوةُ الدنيا لجاهلها ومرارة الدنيا لمن عَقَلا أما أبو الفضل السلمي فيبالغ في هذا الموضوع حين يقول: عابوا الجهالةَ وازدروا بحقوقها وتهاونوا بحديثها في المجلس وهي التي ينقادُ في يدها الغنى وتجيئها الدنيا برغم المَعءطَس إنَّ الجهالةَ للغنى جذَّابةٌ جَذءبَ الحديد حجارةَ المغنيطس! ويقول الآخر: وخصلة ليس فيها من يُخَالفني الرزقُ والجهلُ مقرونان في قرن ونحن نخالفه فالعكس هو الصحيح الفقر هو المقرون بالجهل، ولعل الأقرب للشعر قول حميدان الشويعر: المال لو عند عَنءز شيورت وقيل يا أم قرين وين المنزل؟! على أن العلم والعقل عند هؤلاء الشعراء مقرون بالأدب والثقافة والجاهل من لا يعرف الأدب والثقافة، ولا علاقة للمال بذلك، فالرزق الوفير مع التخصص الدقيق في التجارة (مع وجود الموهبة التجارية ولو كان صاحبها أُمياً).. @ @ @ وفي ربط السعادة بالغفلة والغباء وقلة الطموح يقول الشاعر الشعبي طلال الدغيري: يا شيب عني واهني البهايم ما ميَّزنء درب القدا من عَوَاجَهء هَني دبّ طول الأيام نايم ماله حذا ما حطّ بالبطن حاجه! شبنا وحنَّا مثل سود اللثايم ما ظال من حاجاتنا ربع حاجه! ما نيب هلباج يجي للولايمء وترى مديح النفس عيب وسماجه (شوارد الشيخ عبدالله بن خميس 49/3) قلت: (الهم) مشتق من (الهمة) فكلما كانت همة الرجل قوية وبعيدة كان هَمُّه أكثر وأكبر، أما صاحب الهمة الساقطة (ملء بطنه) فهو سهل الإرضاء لأن مطلبه سهل، وأشقى الناس من زادت همته عن قدرته بكثير، ولعل أسعدهم من كانت قدراته أكبر من همته على أن يكون له همة جميلة وهدف نبيل.. ونعتقد أن الجهل بمعناه الحقيقي لا سعادة معه، وينطبق على الجاهل المركب (وهو الذي يجهل أنه جاهل) قول الشاعر: كالثور عقلاً ومثل التيس معرفة فلا يُفَرِّق بينَ الحقِّ والفَنَد! الجهلُ شَخءصٌ يُنَادي فوقَ هامته لا تسأل الرَّبءعَ ما في الربع من أَحَد!!