يحاول الدكتور علي حرب في كتابه (خطاب الهوية - سيرة فكرية). أن يوضح لقرائه جملة الأطوار النفسية والفكرية والفلسفية، التي مر بها في حياته العامة والعلمية. وكتابه المذكور أعلاه، عبارة عن مسيرة فكرة، نضجت وتطورت، واتخذت أبعاداً عديدة، وخيارات مختلفة، وهي ما زالت سيرة مفتوحة على كل الخيارات والقناعات والأفكار الكبرى. لذلك يقول (حرب) في سيرته: وأيقن أن هويته هي كل هذا الاختلاف والتعدد، وكل ذلك التعارض والانفصام، وإنها أضيق ما تكون من وجه وأوسع ما تكون من وجه آخر. فهي تضيق في حدها الأقصى لتقتصر على ما يخصه وحده وينحاز به عما سواه. وإذ ذاك ينفرد بوجوده الخاص، ويتماهى مع حقيقته الذاتية فيبرأ من كل نسبة، ويعرى عن كل إضافة، غير مدرك سوى أحديته، وأنه هو هو لا يشبه شيء. ولكن هويته قد تتسع في حدها الآخر إلى درجة الذوبان والتلاشي في هذا العالم. وتظهر هذه السيرة الفكرية، بمختلف أطوارها وأنماطها، أن الانحباس في نمط فكري، بلا قناعة عقلية وعلمية ثابتة، يؤدي إلى ممارسة الأعمال النقيضة لها على مستوى السلوك، لأنه لم يتسرب إلى دواخل النفس والوجدان. كما أن القناعات الفكرية، ليست خيارات نهائية، ليس بمقدور الإنسان تطويرها وتغييرها. وإنما هي مشروع مفتوح على الإضافة والتطوير والتغيير. وبهذا يصبح المثقف أو المفكر، إمكانية فعلية ودائمة للمراجعة والمفاكرة، والبحث عن الأفكار الكبرى، والتعامل معها وفق منهج نقدي، ينضجها على مستوى الذات، ويحدد معايبها ونواقصها، ويؤهل ذات المفكر إلى الإضافة النوعية والتجاوز المعرفي. من هنا تنبع ضرورة اهتمام المفكرين العرب، بتدوين سيرهم الفكرية، وأطوار نموهم العلمي والثقافي، حتى يتسنى للقارئ العربي، معرفة منطق التفكير لدى كل مفكر، والتاريخ الفكري الذي مر به هذا المفكر، والصعوبات الفكرية التي واجهته في مسيرته. والطرائق والأساليب التي اتبعها لزيادة وعيه المعرفي ومراكمة جهده الفكري والثقافي. ومن الأهمية بمكان في هذا الإطار، أن نفرق بين المذكرات اليومية، التي غالباً ما توضع كاتبها وكأنه بطل على الدوام، وأن آراءه الفريدة سبقت عصره، وأنها كانت ملازمة لشخصه منذ بداية تكوينه العلمي، وبين السيرة الفكرية، التي تجعل المفكر كتاباً مفتوحاً بأطواره الفكرية وقلقه المعرفي، وأخطائه السياسية، وتنقلاته المعرفية. لهذا فإن المطلوب، ليس أن يكتب كل مفكر مذكراته، ويدون لحظاته اليومية، وإنما أن يكتب سيرته الفكرية وأطوارها ومراحلها. فالسيرة الفكرية بكل صعوباتها ومحطاتها وإخفاقاتها واكتشافاتها، هي المطلوبة وهي التي تساهم في مراكمة الوعي الفكري العربي، وتجعل الأجيال الطالعة تستفيد بعمق وبوعي من تجارب وخبرات الأجيال السابقة. وما نطالب به ليس جديداً، فقد كتب عميد الأدب العربي (الأيام) كسيرة فكرية ويومية. والدكتور حسن حنفي في (محاولة مبدئية لسيرة ذاتية)، وهشام شرابي ومحمد عابد الجابري في (حفريات الذاكرة)، ولكن يؤخذ على بعض هذه الأعمال، أنها أقرب إلى المذكرات، منها إلى السيرة الفكرية. وهناك جملة من المسوغات التي تدفع بهذا الاتجاه، وتجعل العناية بالسيرة الفكرية، ضرورة معرفية وثقافية، أهمها مايلي: - أن كتابة السيرة الفكرية، هو جزء من عملية توثيق المرحلة الزمنية، من زاوية فكرية - ثقافية. ونحن في العالم العربي، أحوج ما نكون إلى عملية التوثيق الفكري والرؤية الثقافية، إلى جملة الأحداث الجسام التي مر بها عالمنا العربي. وتتعمق هذه الحاجة، حينما تكون عملية التوثيق أو صناعة الرؤية الثقافية على منعطفات وأحداث تاريخنا القريب، من قبل المفكرين العرب، الذين يعدون جزءا أساسيا من قيادات الرأي في العالم العربي. - أن قناعات المفكر، وآراءه الثقافية والفكرية، ليست ثابتة أو جامدة، وإنما هي قابلة للتحول والتطور والتغيير، وأن كتابة السيرة الفكرية وبشكل موضوعي، تساهم بشكل كبير في تجديد قناعات المفكر الثقافية والفكرية. ولا يجعل قراء هذا المفكر ومتابعيه ينظرون إلى آرائه وأفكاره، نظرة نمطية ثابتة. وبهذا يكون التعامل مع المفكرين والمثقفين، تعاملاً تفاعلياً، يبتعد عن كل أشكال اليباس والنمطية، ويؤسس لنمط من العلاقات قائم على الحوار والمفاكرة والتفاعل. - إن هناك علاقة عميقة، تربط الإنتاج الفكري والثقافي لأي مفكر، والواقع الذي يعيشه محيطه الثقافي والاجتماعي والسياسي. لذلك من الصعب الفصل بين ما يكتبه المفكر، وما يتطلبه محيطه. إلا أن النص الفكري الذي ينتجه المفكر، ليس صريحاً في بيان خلفية المحيط وتداعياته وتأثيراته. وكتابة السيرة الفكرية، تساهم بشكل قوي في بيان الخلفية الثقافية والاجتماعية والسياسية، التي أسهمت بشكل أو بآخر في القناعات التي بثها في نصوصه الثقافية والأدبية. لهذا كله نرى ضرورة أن يعتني المفكرون العرب، بتدوين وكتابة مسيرتهم وسيرتهم الفكرية والثقافة بتحولاتها وانعطافاتها وصعوباتها وأسرارها، وعوامل التأثير الكبرى في مسارها. لأن هذا التدوين، يساهم بشكل فعال، في إنضاج الحياة الثقافية، ويبعدها عن حالات الجفاء والتباعد، والقطيعة التي تعمل المنازعات والمنافسات السيئة. إن السيرة الفكرية، لأي مفكر، هي عبارة عن عدة تحولات، وتفاعلات مختلفة، بحيث إنه نستطيع القول: أنه وليد التفاعل مع مختلف المدارس الثقافية والسياسية والفلسفية المتوفرة في الواقع العربي، كشف وبيان هذه المسألة يؤدي في تقديرنا إلى إغناء الحالة الحوارية في الحياة العربية. وهذا مما يجعل سيرة المفكر الفكرية والثقافية، رافداً من روافد تعزيز وإثراء الحياة الثقافية العربية. وبهذا تكون السيرة الفكرية، مساحة للتفكير والتأمل، وحقلا من حقول البحث عن الخيارات المناسبة لفضائنا المعرفي والثقافي. وصراحة المفكر في سيرته، ليست عيباً أو نقصاً، وإنما هي إمكان وقوة.