أثناء دراستي مقررات التحليل النفسي في جامعة واشنطن في سياتل، أمضيت وقتًا في تحليل مكوّنات الشخصية، وكان المنهج المتّبع هو أن يحصر كل دارس الشخصيات التي يعرفها معرفة جيدة من بين أهله وأقاربه وزملائه وأصدقائه.. إلخ ممن لهم سمات خاصة تختلف عن غيرهم، ويتوقّع أن كل فرد منهم يمثل نمطًا فريدًا في جانب من جوانب الشخصية. وبعد رصد أكثر الشخصيّات التي مرّت في حياتي ممن أعرفهم معرفة جيدة وأتوقّع أن لهم سمات مختلفة، جاءت مرحلة المواءمة بين السمات بعد تصنيفها إلى ما له صلة بالجوانب العقلية وماله صلة بالجوانب النفسية وماله صلة بالعلاقات الاجتماعية للبحث عن الصفات المشتركة بين الشخصيات ومحاولة وضعها في إطار معرفي يشملها ثم اختيار مجموعة من الشخصيات التي تصلح أن تكون ممثلة للإطار. ونظرًا لأني قضيت جلّ حياتي في السعودية قبل السفر إلى أمريكا، فمن الطبيعي أن أغلب معارفي هم من السعودية ومن بعض رعايا الدول ممن عاشوا في السعودية. ولهذا جاءت معظم الشخصيات التي سردتها ذات سمات مختلفة عن سمات الشخصيات التي جمعها زملائي من الطلاب الأمريكان عندما قمنا بعمل مقارنات بين الشخصيات النمطية عند كل واحد منّا. وبعد تمحيص كل شخصية وتنقيح سماتها بمراعاة فترة التعارف وطبيعته والإجابة عن أسئلة الملاحظين وتدوين الملاحظات على كل شخصية من حيث إمكانية تكررها من عدمه، جاءت القائمة في ثمان وعشرين شخصية. وكان اللافت لنظر الطلاب الأمريكيين أن معظم الشخصيات التي ركّزتُ عليها في قائمتي هي شخصيّات فريدة ليس بسبب شذوذها ولكن لأسباب أخرى تتعلق بالتناقض بين المكوّنات أو الاندماج غير العادي بين عناصر ليس من طبيعتها الاندماج. وكان السؤال المطروح هو كيف نعرف أن هذه الشخصية أو تلك هي شخصية سعودية؟ وللإجابة عن هذا السؤال خلطت الشخصيات في قائمتي مع شخصيات أخرى في قوائم زملاء آخرين، فتكونت مجموعة تزيد على مائة وأربع عشرة شخصية، ووضعت في مختصرات ثم عرضت على طلاب آخرين ليس لهم علاقة بمجموعة الدراسة، وطلب منهم تمييز الشخصيات غير الأمريكية وكُتب بين قوسين (أنماط الشخصيات السعودية). ولحسن الحظ أن هذه التجربة أجريت عام 2000م أي قبل أحداث سبتمبر، ولهذا فلم أواجه صعوبة في التعريف ببعض أنماط الشخصيات التي لقيت تعاطفًا قويًا من الجمهور. وكانت النتيجة أن المستفتين ميّزوا واحدًا وعشرين نمطًا من بين ثمانية وعشرين. واعتقدوا أن الأنماط الأخرى (السبعة) إما أنها مشتركة مع شخصيات أمريكية عرفوها أو أنها على الأقل ممكنة الحصول مع شخصيات عامة، أو يمكن أن توجد في الروايات والقصص الخيالية. وفيما بعد حينما درست "سيكيولوجية الثقافة" مع العالم الفذ حسن الشامي في جامعة إنديانا، اتضح أنّ تلك الأنماط تدخل ضمن مفردات متشابكة من معطيات الثقافة، وتفرّد الشخصيات إنما يعكس نظم الثقافة بما تحويه من قيم محافظة راسخة. والآن وقد مر مايزيد على ثماني سنوات على تلك القائمة، فإن ثمة تغييرات كثيرة يمكن أن تضاف إلى تلك الأنماط، وخاصة أني عرفت عن قرب شخصيات أمريكية وأسبانية ويابانية وصينية وروسية وفارسية في عدد من المدن والولايات الأمريكية التي درست أو عملت فيها. وأصبح بمقدوري تصوّر مقارنة مناسبة بين أنماط الشخصيات ومحاولة ربط ذلك بالقيم الثقافية والنظم الاجتماعية والبيئة الخاصة التي ينشأ فيها كل نمط. وإذا استحسن القراء الأعزاء ذلك، فسأعرض في هذه الزاوية بين فترة وأخرى نماذج من تلك الأنماط، مع الحرص على أن يكون كل نمط سعوديًا مائة بالمائة، بهدف تقديم بعض الشخصيات الإيجابية والسلبية التي نعيش معها أو نراها أمامنا في هذه الحياة. وقد يفتح هذا المجال أمام البعض للتعرف على شخصيات شبيهة أو مختلفة مما يساعد على رصدها والتعرّف على الجوانب الإنسانية التي تختفي خلف جلودها، ومعرفة ما يرتبط بتلك الأنماط من ردود فعل محتملة، ورسم أفق توقّع معين لأثر المتغيرات الاقتصادية والسياسية والتقنية على استجابة المجتمع. يضاف إلى ذلك ماتقدمه تلك الأنماط من عرض لمعالم حركة التاريخ الاجتماعي والثقافي لبلدنا في فترات زمنية مختلفة.